بعد طول غياب قابلته , إنه إنسان من أحب الناس إلى قلبي , ومن أقرب الناس إلى قلوب الآخرين , تحدثنا طويلاً وتبادلنا الهموم والأحلام , ثم فوجئت ُ به يسألني في شرود : محمود قولي صحيح بتحس بإيه وأنت مع ابنك حازم , فأجبته بتلقائية : حازم ده حياتي كلها , ده أنا معرفتش يعني إيه سعادة حقيقية إلا معاه , أنا لما بنام جنبه مش بقدر أغمض عينيه , بنام وأنا فاتح عيني وببص عليه , وبقول يا رب اديني عمر فوق عمري عشان أفضل معاه وأكون جنبه , وقدرني على كل حاجة حلوة ممكن تسعده , ولو قال آه قلبي بيبقى هيقف من الخوف عليه , وأول ما اتولد قلت يا رب أنا مهما عملت مش هقدر أحميه وعشان كده أنا سايبه في حمايتك ورعايتك يا رب .. و .. و .. و ..
استمع لي صاحبي حتى انتهيت من محاضرتي الطويلة التي عبرتُ فيها عن حبي لحازم , ثم قال لي بهدوء : محمود أنا هقولك حاجة محدش يعرفها غيرك , أنا عمري ما هقدر أخلف , الفحوصات والتقارير كلها أثبتت كده ..
كانت صدمة مفاجئة بالنسبة لي , وبدأت أحس بالندم على كلامي السابق فلربما جرح مشاعره , فحاولت معالجة الموضوع وقلت له : طب شوف دكتور كويس واتأكد من الكلام ده , قال : رحت عند أكبر الدكاتره في المعادي وأكدوا لي ندرة حالتي وفقدان الأمل فيها , والدكتور حاول يواسيني وقالي هتعمل ايه بالعيال ده أنا عندي ابني قرفني ومطلع عيني , ساعتها أحسست بالحقد نحوه وكنت عاوز أقوم أكسر المكتب عليه , وحسيت بالحقد والغيظ من الدنيا كلها , ومش عارف إيه الهدف من حياتي دلوقتي , وإيه لزمتها أساساً ..
بعدها بفترة تذكرت هذا الموقف , وتذكرت مدى خوفي وهلعي ورعبي على حازم من أتفه الأشياء , وتذكرت كيف أقوم من نومي كثيراً مفزوعاً وأنا أردد اسمه , وأسأل عنه زوجتي التي تخاف علي من هذه الفزعات المتكررة ..
تذكرت مدى خوفي على حازم من هذه الحياة المتقلبة , وكيف أنه حتى لو بقى راجل وبشنبات سوف أخاف عليه , وسوف يتقطع قلبي عليه لو غاب أو تأخر ولو لدقائق ..
يالها من عاطفة قاتلة , تلك التي تسيطر على قلوب الآباء والأمهات نحو أبنائهم , ولا تفارق قلوبهم إلا بالموت ـ وربما لا تفارقها !! ـ يالها من عاطفة على قدر روعتها ومتعتها فهي تسبب آلاماً هائلة تفوق ـ في رأيي ـ أية آلام أخرى ..
ساعتها عقدت مقارنة بين حالتي وحالة صاحبي , وقلت لنفسي إنه بعد فترة من الوقت سوف ينسى موضوع الإنجاب هذا إلى حد ما , وهو لن يعاني من الآلام الهائلة التي يتكبدها كل أب وأم بسبب الخوف على أبنائهم والقلق عليهم مهما كبروا ..
آه يا رب , إنها حكمتك العظيمة في كل شيء , لو أعملنا عقولنا ووثقنا بخالقنا الحكيم لأدركنا حقيقية رائعة وهي أن الحرمان من النعمة نعمة , ولكن مَن يدري ؟
قد يحرمنا الله الحكيم العليم الرحيم من القوة , ويكون هذا الحرمان نعمة , فلو أعطانا هذه القوة لأفسدنا في الأرض , وما أكثر المفسدين الذين غرتهم قوتهم ونسوا خالقهم ..
قد يحرمنا الله الحكيم العليم الرحيم من المال , ويكون هذا الحرمان نعمة , فلو أعطانا هذا المال لبغينا في الأرض , وما أكثر الباغين الذين نسوا نعمة الله عليهم واعتقدوا أنهم في هذه النعمة بسبب ذكائهم وعبقريتهم التي ليس لها نظير , ولا ننسى قارون عندما قال :
قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ( 78 سورة القصص )
قد يحرمنا الله الحكيم العليم الرحيم من العلم , ويكون هذا الحرمان نعمة , فلو أعطانا هذا العلم لضللنا , وما أكثر الضالين الذين أضلهم علمهم بدل أن يهديهم .. وما أكثر الذين عبدوا عقولهم من دون الله ..
وقد يبتلينا الله الحكيم العليم الرحيم بأشد أنواع المصائب والمحن , ويكون في هذا الابتلاء نعمة ما بعدها نعمة , ولكن مَن أدرانا نحن بحكمته سبحانه وتعالى ؟
عندما دارت هذه الخواطر في نفسي قفزت إلى ذهني فجأة قصة نبي الله موسى عليه السلام مع العبد الصالح الذي قال لسيدنا موسى : لن تستطيع معي صبرا , وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا , لقد قام العبد الصالح بثلاث تصرفات أغضبت سيدنا موسى وأثارت دهشته , فمرة قد خرق السفينة ليغرق أهلها دون ذنب , ومرة قتل نفساً زكية بغير نفس , ومرة قام بإصلاح جدار في بلد رفضت إطعامهما , ساعتها لم يستطع عقل سيدنا موسى صبراً أمام تفسير هذه الأمور , فأخبره العبد الصالح بالسبب وراء كل فعل وما أعدله من سبب في كل مرة :
قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا
قال إنك لن تستطيع معي صبرا
و كيف تصبر على ما لم تحط به خبرا
قال ستجدني إن شاء الله صابرا و لا أعصي لك أمرا
قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا
فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا
قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا
قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا
فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا
قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا
قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا
فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا
قال هذا فراق بيني و بينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا
أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها و كان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا
و أما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا و كفرا
فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة و أقرب رحما
و أما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة و كان تحته كنز لهما و كان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما و يستخرجا كنزهما رحمة من ربك و ما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا.
( سورة الكهف )
ليتنا لا نشغل أنفسنا بالبحث عن الأسباب والعلل , فالله له حكمته في كل شيء , وليتنا نرضى بقضاء الله , فنحمده عند النعمة , ونحمده عند حرماننا من النعمة , ونحمده عند المحنة والابتلاء .
تحياتي ومحبتي لكم جميعاً
محمود صلاح ( أبو حازم )