نزعوا حجابها فارتدت البطانية
يزخر الوطن الاسلامي، اليوم، بالعديد من رواد ورائدات العمل الاسلامي. وتقف الاديبة مليكة صالح بك في مقدمة الرساليات اللاتي دافعن عن الاسلام، ودفعت فاتورة ولائها لهويتها سجناً وتعذيباً وغربة وتضحيات حسام.

والاديبة الكاتبة من مواليد سراييفو، واكملت دراستها التقليدية هناك، التحقت بكليتي العلوم السياسية والفلسفية واكملت دراستها العليا في فرنسا، وعادت الى سراييفو سنة 1974م، حيث عملت محاضرة في كلية الفلسفة ومستشارة لوزارة الشؤون الثقافية في جمهورية البوسنة (المنضوية قسرا تحت الاتحاد اليوغسلافي منذ منتصف الاربعينات)، حيث الرضوخ الى تجربة الشيوعية التيتوية.

في عام 1979م خلعت مليكة ثوب الفكر الشيوعي، وسرت في عروقها دماء اسلامية جديدة، لتعيد لروحها تواصلها مع الجذور وامتداداتها في الزمن، ولتخوض نضالاً ضد رفاق الامس الذين لم يرحموها، واضطهدوها داخل محاكم التفتيش الشيوعية.

القرار الصعب..

تقول مليكة «في سنة 1979م اطلعت على ترجمة لمعاني القرآن الكريم، وكانت تلك نقطة الحسم، وملك كياني شعور اقتحم عقلي عنوة وافرغ ما فيه من ترهات فلسفية وتصورات معلبة عن الحداثة والتقدم والتطور والحياة كلها، ليس هناك من تطور يفوق السمو الروحي، وليس هناك من لذة تفوق ان ينام الانسان وهو راض عن ذاته، وليس هناك من علم جدير بالاحترام من التواضع في طرح اعقد المسائل العلمية والاصغاء باهتمام لتجارب التراكمات التاريخية في الحياة الاجتماعية، التطور شيء طبيعي تقتضيه مصالح المجتمع وهو يسير بشكل آلي من خلال الكدح اليومي والاحتكاك السلمي بالمدنيات الاخرى، وليس قهرا من فوق، سواء بالاستعمار، او السلطة والتي في الغالب ما تؤدي الى نتائج كارثية لان المجتمعات كالاجسام اما ان تقاوم وتنتصر او تخضع فتنهزم وتموت.

في السنة نفسها زرت لندن، ووجدت كتباً اسلامية عدة قمت باقتنائها، وكان ذلك فجراً جديداً في حياتي، كما قمت بزيارة اخي في العراق، ووجدت حركة اسلامية تمثل اسلاما حيا يتوغل في كل مناحي الحياة أثار اعجابي، وان كنت استأت لموقف السلطات منها، وهكذا كانت ثورتي الداخلية تلامس اسلاماً يعاش وليس اسلاماً يتحدث عنه من فوق المنابر او على صفحات الكتب فقط.

وفي تلك السنة قامت الثورة الاسلامية في ايران، والتي فاق دويها كل التوقعات، واثرت تأثيراً بالغا في ادبيات ومناهج الحركات الاسلامية في العالم.. من قبلتها ومن اختلفت معها: لقد اراد الله ان يعيد الاسلام للساحة الدولية».

ثم ارتدت الحجاب، وكان لهذه الخطوة وقع الصاعقة على السلطات الشيوعية، التي بادرت بعد ستة اشهر الى اخراجها من العمل، مع ايقاف نشر كتبها، وبعد تسعة شهور وبينما كانت تذكر اللّه بعد صلاة الفجر اقتحم سبعة من منتسبي الشرطة بيتها ليقتادوها الى السجن، فيما تركت ولدها وحيداً، وكان عمره 12سنة. لترزح في السجون اليوغسلافية سنتين ونصف، تعرضت فيها لجميع صنوف العذاب والاضطهاد، وكان سلاحها _كما تقول_ هو ذكر اللّه والاضراب عن الطعام، اذ اُضربت عن الطعام 72يوما وقد وصلت الى حافة الهلاك!

وتبقى تجربة الاديبة الكبيرة في بلدها لاتقل بشاعة عن بقية التجارب فقد سجنت وعذبت ونزع من على رأسها الحجاب، وعندما دخلت السجن وضعت جزءاً من بطانية على رأسها، وعندها هددوها بنزعه فقالت لمديرة السجن: بامكانك نزع حجابي الذي فوق رأسي ولكن لاطاقة لك بحجابي الذي في قلبي وعقلي!

المجاهدة في كل الخنادق
على ان الاديبة الملتزمة لم تكتف بكل ذلك، فها هي تخوض غمار الجهاد على اكثر من صعيد؛ قولاً وعملاً، سلوكاً وممارسة وتعيش الهم الاسلامي بكل آفاقه. ويتضح ذلك جلياً من خلال اجابتها على سؤال حول ما الذي يجب ان تفعله المرأة المسلمة في مواجهة التحديات المذكورة والمساهمة في الدفاع عن المرأة كما ارادها الله.. فكان جوابها:

«اريد ان ابعث بسلامي لكل المحجبات وراء القضبان في العالم الاسلامي، وللاخوات المحرومات من التعليم والعمل في بعض البلدان، كتونس وتركيا بسبب احجبتهن، فأنا مثلهن، مازلت ممنوعة من العمل بسبب حجابي، فبلدي الذي قدم اكثر من مائتي الف شهيد، واغتصبت فيه المسلمات، الكلمة الاخيرة فيه ليس لقياداته، وانما للاغراب ادعياء الديمقراطية، الديمقراطية العنصرية. فهي لهم فقط، فلادور حددوه لنا سوى ان نمتدح ديمقراطيتهم ولانحلم ان نصبح مثلهم، نحن في جهاد ولابد من استمرار الجهاد».

وتمضي هذه الاديبة المجاهدة في تحديد بعض الملامح الاساسية الملحة للمشروع النهضوي النسوي، فتقول: «الاجيال القادمة في حاجة لنماذج معاصرة، لعالمات معاصرات، لمجاهدات معاصرات، لكاتبات وصحفيات، لطبيبات مميزات، لكل عنصر خصائصه. وانا احب المبادرات الاسلامية في عالم الفكر والحياة المعاصرة بما لايخرج من معلوم من الدين بالضرورة.. اصنعوا النماذج لكن لكم المستقبل، بالمداد والدماء، الصبر والتضحية.. الجلد والاصرار والرباط في كل الاماكن، العلاقة يجب ان تكون على اسس اسلامية وليس على اسس فئوية..

تصنيف الاعداء وتصنيف الاصدقاء يجب ان يكون بالارقام. راهنوا على الدراسات العليا فنحن في عالم الالقاب».

وبعد هذه جولة سريعة في حياة وافكار الاديبة المسلمة الكبيرة مليكة صالح بك.. التي عشقت الاسلام بلاحدود.. وضحت من اجله بكل سخاء.. فتحية اكبار لها وللسائرات في دربها..