رعد الطائرات الحربية من فوقنا اختلط بانفجارات الصواريخ المروعة التي تنهال علينا من كل حدب و صوب ،
هدير آلياتهم العسكرية تقتلع في طريقها الأخضر و اليابس ،
اختلط منا الحابل بالنابل ،
أمطرونا بوابل من رصاص اليورانيوم المخضب ،
خيولنا تفر هاربة ،
وجدت إحداها تجر فارسها المقتول من قدمه ، تغمسه بمستنقعات الأوحال الدموية ،
أحاول رفع رأسي فلا أبصر إلا اللون الأحمر يصبغ الأشياء من حولي ،
الدخان يتكاثف أكثر فأكثر ،
أرى أحدنا يحاول يائسا تثبيت رايتنا التي تتلاعب بها الرياح ،
صم أذني صرخات الفارين من النساء و الأطفال ،
أرى امرأة تمسك بذراع طفلها الذي فقد جسده ،
اتسعت العيون ، يحاولون الفرار من هول الكارثة ،
ينزلقون في أنهار دماء الملايين من الجثث التي تكومت هنا وهناك ،
يزحفون بكل ما آتاهم الله من قوة للفرار من هذا الجحيم ،
انفجار هائل مزق المشهد بعيني ،
تطايرت الأشلاء تلطخ وجهي المذهول بدمائهم الزكية ،
أحاول الفرار ، تتعثر قدماي ، ترتطم رأسي بالأرض ،
أجدني أزحف رعبا ،
تدوسني أقدام الخيول الفارة ،
أتحامل على ذراعي المتبقية ، أحاول عبثا النهوض ،
بالكاد نجحت ،
أبصر بين الدخان أخي المثخن بالجراح و قد أشهر ( منجله ) بوجه أحد الأعداء الممسك ببندقيته الآلية ،
تخرج رصاصة باتجاه أخي ،
أرفع سيفي الثقيل ،
أهوي به على رأس قاتله ، أفلقها إلى شطرين ، تلطخ وجهي الدماء ،
أرى أخي يسقط ، يرمقني بنظرة رضا ،
يتوج رأسي بآخر ابتساماته اللؤلؤية ،
آخذه بين أحضاني ،
شد على يدي الملطخة بالدماء ،
بالكاد تصل همساته إلى أذني )
ـ نلتقي بالجنة بإذن الله .
( صمت خيم على الكون ، بادرني )
ـ ماذا أصابك ؟ ألا يرضيك ما فعلنا ؟ أمازلت مقتنعا بأننا قصرنا ؟
ـ بالله عليك ما جدوى خيولنا مقابل طائراتهم و آلياتهم ؟
ما فائدة منجلك الصدئ هذا مقابل هذه الصواريخ ؟
صرخت فيكم مرارا : يجب أن نبني أنفسنا أولا .
ـ هون عليك يا محمد ، فلقد فزنا و رب الكعبة .
ـ فزنا ؟ أي فوز هذا الذي تخدع به نفسك ؟
ـ أفقدت بصرك ؟ ها هم إخواننا من الشهداء و قد فازوا بالجنان .
ـ و ماذا تركنا لهذه الحشود من النساء و الأطفال ؟
بالله عليك ماذا تركنا لهم ؟
ـ تركنا لهم الله و رسوله .
ـ بل تركنا لهم الخزي و العار ، تركنا لهم ذل الأسر و العبودية و المهانة ، لم يعنكم سوى بطولاتكم الزائفة ، و الله لن يسامحنا الله .
ـ دعك من غيك القديم هذا .
ـ لا لن أسكت ، نعم ، هل تذكر عندما هتفتم بأعلى أصواتكم : فلنقاطع روسيا لما يفعلونه بأفغانستان و الشيشان ؟ و بعدها هتفتم : ، و لنقاطع الصرب لما فعلوه بالبوسنة و الهرسك ، و لنقاطع أمريكا و انجلترا لما يفعلونه بالعراق و أفغانستان ؟ و لنقاطع أوربا و العالم أجمع و كل من يساند أبناء صهيون بسبب ما يفعلونه بفلسطين و لبنان و الجولان .
قلت لكم : لا مانع من المقاطعة و لكن يجب أن نقوم على إنتاج البدائل العربية و الإسلامية .
وضعتم أصابعكم في آذانكم و كأنني أسبكم و هتفتم : فلنقاطع فرنسا بسبب الحجاب ، و لنقاطع الدينمارك و النرويج و أسبانيا و أوربا و كل من ينشر الرسوم .
ناديتكم : لا تدفنوا رؤوسكم في الرمال و بلغوا عن رسول الله و لو آية ، فلقد أمرنا ( بلغوا عني و لو آية )
قلتم : ما أدراك أنت عن هذه الألوف التي تعتنق الإسلام كل يوم ؟
صرخت فيكم : يجب علينا أن نملك قوتنا كي نملك كلمتنا ،
( ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده )
ذهبت صرخاتي أدراج الرياح ،
و نشروا الرسوم ثانية ، عندها عدتم و هتفتم : فلنقاطعهم ثانية و إذا نشروها ثالثة قاطعناهم الثالثة ، و الرابعة ، و لا هوادة ،
و عرضت هولندا هذا الفيلم ، و عندها أيضا هتفتم : فلنقاطع هولندا ، ظللتم تقاطعون و تقاطعون و تقاطعون و لم تفكروا و لو للحظة واحدة أن تنتجوا بديلا لما تقاطعون ،
قاطعنا العالم أجمع من المشرق إلى المغرب ،
لم تفكروا و لو للحظة واحدة في بناء أنفسكم ،
بالله عليكم ألم تمر بأعينكم يوما هذه الآية الكريمة ؟
( و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل ترهبون به عدو الله و عدوكم )
انظر ، انظر نتيجة تعنتكم ( أخذت بلحيته أحول بصره تجاه القتلى ، أغلق عينيه هربا ، فتحتها عنوة بأصابعي )
انظر هناك ، هل ترى هذه الملايين من النساء و الأطفال ؟
ماذا تركنا لهم غير الذل و الهوان و العبودية ؟
حسبي الله و نعم الوكيل ، حسبي الله و نعم الوكيل .
ـ بالله عليك ما فائدة هذا الآن ؟ إنه قدرنا يا أخي .
ـ إياك أن تقول قدرنا ، لو كان قدرنا لما حاسبنا الله على أي جرم اقترفناه.
ـ و لماذا لم ترحل و تتركنا إذن ؟
ـ لا ، إلا كسر عصا الطاعة و الخروج على رأي الجماعة .
ـ فما فائدة البكاء على اللبن المسكوب إذن ؟
لا نفع لهذا الآن ، هيــــــــــــا ، هيا لنكمل ما بدأناه .
ـ نعم ، لا نفع لهذا الآن ( رفعت كفي إلى السماء أفوض أمري إلى الله )
ـ اللهم إني أبرء إليك مما فعل السفهاء من أولائك و هؤلاء .
( ربطت الراية بظهري ،
تساندنا نحاول النهوض ، بالكاد نجحنا ،
تدابرنا ألوح بسيفي الثقيل بينما أشهر أخي منجله ،
ما هي إلا لحظة واحدة حتى تناهشتنا الحشود لإسقاط رايتنا الخفاقة،
و لكن هيهات هيهات ، فالموت دونها هو السبيل .






من روائع الأديب المصري / محمد سنجر
http://www.almarsaa.net/showthread.php?t=16367