بسم الله الرحمن الرحيم
شُـعَاعُ عِـلمٍ ثَـاقِـبٍ

ارْتَعَدَتْ فَرائِصُ الخَلِيفَةِ العَباسيِّ المُعْتَمَدِ.. وَهَرَعَ مُسْتَنْجِداً بالإِمامِ الحَسَنِ بنِ عليٍّ العَسكَريِّ عليه السلام..
خَرَجَ فَزِعَاً مِنْ بَينِ جَوارِيهِ، وَذلِكَ الأَثاثِ الفَخْمِ الّذي لَمْ يَشْهَدْ التأريخُ مَثيلاً لَهُ، مَعَ تماثِيلِ الذهبِ الّتي تُزيّنُ جَوانِبَ القَصْرِ المُغَلَّفةِ جُدرانَهُ بِالفُسَيْفَساءِ والرُّخامِ المُلَوَّنِ..
وَمِنْ بَينِ حُرّاسِهِ راحَتْ عِيُونُ الناسِ تُحدِّقُ فِيهِ وَهُوَ يُسْرِعُ في طَريقِهِ بَينَ هؤُلاءِ المَساكِينِ.. الجائِعينَ والمظلومِينَ.. هذه ضَحاياكَ أيُّها الخَلِيفَةُ.. ألمْ تُبصِرْ عَيْناكَ أجسادَهُمُ التي لا تَكادُ تَستُرُها مَلابِسُهُمْ المُمَزَّقَةُ..؟
وَيَحْكُمْ يا بَني العبّاسِ ما أظلَمَكُمْ.. بأموالِ هؤُلاءِ تَبنوُنَ قُصُورَكُم..، وَتَكنِزُونَ الذَهَبَ وأنواعَ الُمجوهَراتِ وَغَيرَها..! تُحيُونَ حَفَلاتَكُم بالرّقصِ والغِناءِ والشَّرابِ وَشَتّى أنواعِ الفُجُورِ.. والنّاسُ يَتَضَوَّرونَ جُوعاً.. وَتَتَجَمَّدُ أجسادُهم مِنْ بَردِ الشّتاءِ.. وَتَكتَوي تَحتَ لَهِيبِ شَمسِ الصَّيفِ الُمحرِقَةِ..

أثارَ خُرُوجُ المُعتَمَدِ ـ وهو على هذهِ الحالةِ مِنْ الفَزَعِ ـ تَساؤل النّاسِ..
ماذا حَصَلَ يا تُرى..؟!
تَقَدَّمَ رَجلٌ مِنْ أصحابِهِ قائلاً:
إنَّ الخَليفَةَ المُعتَمَدَ ذَهَبَ إلى سِجنِ الإِمامِ الحَسَنِ العَسكريِّ عليه السلام ..
صَرَخَ أحَدَهُم:
ماذا يُريدُ هذا الوَغدُ مِنَ الإِمامِ العَسكريِّ عليه السلام..؟! ألا يَكفِيهِ أنَّهُ سَجَنَهُ وَمَنَعَهُ مِنْ اللّقاءِ بِشِيعَتِهِ وأهلِ بَيتِهِ..؟! ماذا يُريدُ مِنهُ بَعدَ أنْ عامَلَهُ بمُنتهى القَسوةِ.. وَضَيَّقَ عَليهِ حَياتَهُ فَجَعَلَهُ يَعِيشُ في أزمَةٍ ماليَّةٍ خانِقَةٍ..
ـ رُبّما عَزَمَ على قَتلِهِ..؟ قالَ أحَدُهُم..
وأردَفَ آخرُ :
أنا لا أستَبعِدُ هذا أبَداً.. لأَنَّ هُناكَ خَبَراً شائعاً بَينَ أوساطِ النّاسِ.. أنّه سَيَخرُجُ مِنْ صُلبِ الإِمامِ الحسنِ العسكري عليه السلام إمامٌ يَملأُ هذهِ الأَرضَ قِسطاً وَعدلاً بَعدَ أنْ مُلِئتْ ظُلمَاً وَجَوراً..

تَنَهَّدَ الرَجُلُ عَمِيقاً.. ثُمَّ أَردَفَ قائِلاً:
وَهَل هُناكَ أَكثَرُ مِمّا نَحنُ فِيهِ الآنَ مِنْ ظُلمٍ وَجَورٍ..؟
* * *
ـ يا ابنَ رَسُولِ الله أدْرِكْ أُمَّةَ جَدِّكَ..!!
بِهذهِ العِبارَةِ تَلَفَّظَ الخَلِيفَةُ المُعتَمَد وهو يَقِفُ قِبالَةَ الإِمامِ الحَسنِ العَسكَري عليه السلام ثُمّ أردَفَ مُواصِلاً حَدِيثَهُ:
مُنذُ فَترَةٍ وَالمَدِينَةُ تُعانِي مِنْ قَحطٍ شَدِيدٍ بِسَبَبِ عَدَمِ تَساقُطِ الأَمطارِ.. فأمَرتُهُمْ بالخُرُوجِ إلى صَلاةِ الاسْتِسقاءِ، وَالتضَرُّعِ إلى اللهِ تعالى لَعَلَّنا نُغاثُ بالمَطَرِ.. فَفَعَلنا ذلِكَ ثَلاثَةَ أيّامٍ فَلَم تَرزُقْنا السَماءُ قَطرَةَ مَطَرٍ واحِدَةً..
فَجْأةً !! وإذا بِمَجمُوعَةٍ مِنَ النَصارى بَينَهُم راهِبٌ.. ما إنْ رَفَعَ هذا الراهِبُ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ حَتى تَجَمَّعَتِ الغِيُومُ فَهَطَلَ المَطَرُ.. مما جَعَلَ بَعْضَ المُسلِمِينَ في شَكٍ مِن دِينِهِمْ.. وَقَدْ ارتَدَ قِسمٌ مِنهُم.. وأنا في حِيرَةٍ مِنْ أمرِي لا أعرِفُ ماذا أصنَعُ..
قالَ الإِمامُ الحسنُ العسكريُّ عليه السلام:
دَعْهُم يَخرُجُوا غَداً.. وأنا أُزِيلُ الشَّكَّ إنْ شَاءَ اللهُ..
فَفَرِحَ المُعتَمَدُ فَرَحَاً عَظِيمَاً.. وأمَرَ بإطلاقِ سَراحِ الإِمامِ العسكري عليه السلام فَطَلَبَ مِنْهُ الإِمامُ عليه السلام أنْ يُطلِقَ مَعَهُ سَرَاحَ أصحابِهِ.. فاستَجابَ المُعتَمَد على الفَورِ..
* * *
وفي اليَومِ التّالِي كانَتْ جَماهِيرٌ مِنَ النّاسِ تَلتَفُ حَولَ ذلِكَ الراهِبِ.. يَنظِرُونَ إليه بِتَعَجُّبٍ شَدِيدٍ وهو يَرفَعُ يَدَيهِ إلى السّماءِ.. فَتَتَجَمَّعُ الغيُومُ..
فُجأةً وإذا بِصَوتِ الإِمامِ العسكريّ عليه السلام يَأمُرُ بإلقاءِ القَبضِ على يَدَيِ الراهِبَ قَبْلَ أنْ يَتَساقَطَ المَطَرُ.. مِما جَعَلَ النّاسَ في قِمَةِ التّعَجُبِ والانبهارِ وَهُمْ يَتَساءَلونَ عَمّا يَجري أمامَهُم..
وَفي هذِهِ الأَثناء.. صَرَخَ بَعضُهُم :
أُنظُرُوا.. الإِمامُ يَرفَعُ بِيَدِهِ شَيئاً كانَ في يَدِ الراهِبِ..!!
تَقَدَمَ المُعتَمَدُ العباسيّ مِنَ الإِمامِ الحسنِ العسكريّ عليه السلام مُتَسائلاً :
ماهذا..؟!!
فَرَفَعَ الإِمامُ العسكريُّ عليه السلام صَوتَهُ عالِياً لِيَسمَعَ النّاسُ جَميعاً:
هذا عَظْمُ نَبِيّ.. ظَفَرَ بِهِ هذا الراهِبُ مِنْ بَعضِ القُبُورِ..
والنّاسُ بِكُّلِ جوارِحِهِم مَشدُودِينَ إلى الإِمامِ العسكريِّ عليه السلام يُحدِقُونَ فِيهِ بِعِيُونِهِمْ.. وَيَصغَونَ إليهِ بِآذانِهِمْ.. والإِمامُ عليه السلام يُواصِلُ حَدِيثَهُ حَتّى قالَ:
ما كُشِفَ عَظْمُ نَبِيٍّ تَحتَ السّماءِ إلاّ وَهَطَلَتْ بِالمَطَرِ..

فَتعالَت أصواتُ النّاسِ بالصَلاةِ على النَبِيّ مُحَمّدٍ وَآلهِ.. ثُّمَ راحُوا يُرَدِدُونَ:
إنْتَفى الشَكُ.. إنْتَفى الشَكُ.. فَلا مَكانَ للمُشعوذِينَ أمامَ عِلمِ آلِ الرّسُولِ مُحَمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم..