لم يتخيّل يوماً أن يرتبط بهدى، قبل سنوات كان يحلف بأغلظ الإيمان ألاّ يفكّر حتى بالزواج بها، حينها لم يكن قد تجاوز العشرين، أمّا الآن فهو في الخامسة والعشرين… تغيّرت نظرته للحياة خاصّة بعد خوضه الحياة الجامعية، ومن ثمّ عمله في إحدى الشركات.

* ** ** ** **
- صدّقني يا جمال لن تجد مثل هدى…

قاطعت لولوة والدتها…

- هدى؟!!!!.

قالتها بازدراء وأكملت…

- ألم تجدي غير هدى يا أمّي؟! إنّها فتاة غريبة الأطوار…

هزّت الأم رأسها كأنّها تستنكر قول ابنتها…

- استغفري الله يا لولوة، فقد اغتبتها.

- أَمْ قلت الحق؟!!

تدخّل جمال…

- اشرحي لي يا دكتورة لولوة حالة صديقة عمرك.

- كااااااااااانت صديقتي.

- والآن…

- الآن أنا في طريق وهي في طريق.

- بهذه البساطة.

- تخيّل يا جمال أنّها مازالت ترتدي عباءة الرأس!!!.

رفع حاجبه مستغرباً والدهشة تعلو وجهه…

- حقاً!!.

- وتصر على ارتداء الجوارب قبل خروجها، وقفّازاتها السوداء حدّث ولا حرج، كأنّها…

نهرتها والدتها…

- لماذا تتحدّثين عن هدى بهذه الطريقة؟!!!

- أمي دعيني أخبره كل شيء عنها… إنّها لا تضحك إلاّ نادراً، مجالسنا لا تعجبها.

قاطعتها والدتها…

- حدّدي يا هدى، مجالس الغيبة والنميمة لا تعجبها.

- أمي هذه الإنسانة لا شخصية لها.

قال لها جمال…

- معلومة جديدة.

أكملت لولوة…

- أذكر مرّة حين كنّا في المرحلة الإعدادية، اتهمتها إحدى الطالبات بالغش!!.

- وهل كانت تغش فعلاً؟!!

- تغش؟!! مستحيل… لقد قُدِّمت لها برشامة على طبق من فضّة في امتحان اللغة الإنجليزية، تعرف ماذا فعلت؟!! وضعتها في جيبها ولم تنظر إليها… تصوّر رفضت أن تمرّرها… حاولن معها البنات كي تخرجها لكنّها تجاهلتهن، حينها لم تجد صديقتي خلود بداً من إبلاغ المدرِّسة، قالت لها إنّ هدى تغش والدليل في جيبها…!!!! لا أنسَ ذلك اليوم، صُدِمت المدرِّسة فيها، وقالت لها ساعتها: لقد توقعت الجميع أن يغش إلاّ أنتِ!!! لم تدافع عن نفسها لكنّها رمقت خلود بنظرة حملت ألف سؤال وسؤال…

- وماذا في هذا الموقف العادي؟!!

- انتظر قليلاً… في اليوم التالي توقعنا أن تقوم مشكلة كبيرة بين هدى وخلود…

- ماذا حدث إذن؟!!

- مرضت خلود وغابت عن المدرسة. كانت هدى أوّل من سأل عنها. زارتها تلك الليلة، ولم تخرج عنها إلاّ بعد أن شرحت لها كل ما فاتها من دروس…

- ومن تفعل ذلك تعتبر غريبة الأطوار وبدون شخصية؟!!

- أجل… لو كنت مكانها لما تحدّثت مع من أساءت إليّ أبداً، ولَلَقّنْتُها درساً لن تنساه.

- وألا تعتقدين أنّها لقّنتها درساً بالفعل؟!!

- كيف…؟!! لم أفهم…

أمسكت الأم بطرف الحديث…

- ما أفهمه أنّك لن تجد مثل هدى، إنّها إنسانة خلوقة ومؤدّبة.

- أمّي إنّها لا تناسبه… جمال الجامعي الموظف يتزوّج من إنسانة لم تتمكّن من الحصول على الثانوية العامة؟!!!…

- لا حول ولا قوّة إلاّ بالله… كلّنا يعرف سبب عدم حصولها على الثانوية، ضحّت بدراستها من أجل الاعتناء بوالدتها المريضة.

- تضحية!!! تسمّين ما فعلته تضحية… لقد خسرت دراستها…

تجاهلت الأم كلام ابنتها، واتجهت لابنها…

- والآن ماذا قلت؟!!

- توكّلي على الله يا أمي…

صاحت لولوة…

- ستتقدّم لها؟!!

قال مبتسماً وكأنّه انتصر…

- أجل لقد قرّرت أن أرتبط بتلك الإنسانة الغريبة الأطوار… التي لا شخصية لها… هدى.

* ** ** ** ** تقدّم جمال طالباً يد هدى من والدها العجوز… وبعد أيّام…
- لا أعلم ماذا أقول لك يا ولدي؟!!

تغيّرت ملامح جمال حين سمع تلك الكلمات… ارتبك…

- عمّي… الزواج أولاً وأخيراً قسمة ونصيب… وإذا قوبل طلبي بالرفض…

- ومن قال إنّنا رفضنا… كل ما في الأمر أن ابنتي وضعت شرطاً.

ارتاح جمال حينها، ابتسم وقال:

- وأنا قبلت…

ضحك والد هدى العجوز وقال:

- بهذه السرعة… انتظر حتى تعرف الشرط…

- أيّاً كان فقد قبلت بِه.

- ابنتي لا تريد أن تفارق والدتها العجوز، بمعنى آخر ستعيشان معنا.

* ** ** ** ** بعد شهر عُقد قرانهما لكن بدون أي احتفال مراعاة لظروف والدة هدى الصحيّة. لم تشاهد هدى جمال، ولم تسمع حتّى صوته، رفض والدها أن يتحدّثا معاً على الهاتف… لماذا العجلة؟! بعد الزواج سيتحدّث معها كما يشاء.
دفعها الفضول لرؤيته، خانتها جرأتها، فَوأَدتْ كل التساؤلات في داخلها، تساءلت… لماذا اختارها هي بالذات؟!! خاصّة أنّها توقعت أن يسلك طريقاً آخر أمام شرطها… إصراره ولّد في نفسها أشياء كثيرة ومشاعر يغلبها الحياء والفرح.

تمنّت أن تعرف عنه الكثير لكن لا جرأة لديها أن تسأل، تخاف أن تُفهم خطأ بتساؤلاتِها… ومن تسأل؟!! والدتها المريضة؟! أم والدها العجوز؟!! تلك اللحظة تمنّت لو أنّ لها أخ أو أخت تبوح لهما ما لا تجرُؤ البوح بِه أمام والديها.

* ** ** ** ** أيقظه صوت الهاتف المزعج، من هذا الذي يطلبه في هذا الوقت المتأخّر؟!! نظر إلى المنبّه… كانت الثانية صباحاً…
- السلام عليكم…

جاءه صوت يسمعه لأوّل مرّة، صوت يحمل رعشة غريبة…

- وعليكم السلام.

أكمل الصوت متوسّلاً…

- جمال أمي مريضة جداً، ولم أجد غيرك أستنجد به، ليس بمقدور والدي أن يصحبها إلى المركز الصّحي…

* ** ** ** ** مضت على تلك الليلة ثلاثة أشهر، فيها أسلمت والدة هدى روحها قبل وصولها المستشفى.
* ** ** ** ** - أَلمْ أقل لكم؟!! أَلَمْ أحذّركم؟! كأنّ قلبي أحس بذلك…
- أحس بماذا يا لولوة؟!!!

- هذا الزواج شؤم منذ بدايته، توفيت والدتها بعد عقد قرانها بأسبوع…

- الأعمار بيد الله يا ابنتي.

- ولماذا لا تكون هي السبب؟!

كان جمال يستمع لحديث والدته وأخته بصمت، لولوة تتحدّث عن هدى وكأنّ بينهما ثأراً…

- أخي… أَلمْ تسأل نفسك سؤال؟!

- سؤال؟!

- من الذي اتّصل بِك تلك الليلة المشؤومة؟!

- تقصدين هدى؟!

- ومن غيرها؟! أَلَمْ تتساءل من أين حصلت على رقم هاتفك الخاص؟!

عاد جمال إلى سكوته…

- لقد اتّصلت بِك… ومن يضمن لك أنّها لم تتحدّث مع غيرك؟!

صرخت والدتها في وجهها…

- يكفي يا لولوة، لقد تجاوزتِ حدودك، هل نسيتِ أن من تتحدّثين عنها هي زوجة أخيكِ؟!

قالت بعناد…

- لم تصبح زوجته بعد…

- هل جننتِ؟! جمال لماذا لا ترد عليها؟! لماذا لا توقفها عند حدّها؟!

لم يرد عليهم، غادر البيت دون أن يقول شيئاً.

* ** ** ** ** - هدى… هدى…
انتبهت هدى لصوت والدها…

- نعم يا أبي…

- ماذا بِكِ؟!

- لا شيء… لا شيء…

- هدى… قد أكون رجلاً عجوزاً لكن هناك أمور أستطيع أن أحس بها… هل نسيتِ أنّي والدك؟!

ابتسمت هدى ابتسامة حزينة، وقالت:

- صدّقني… ليس بي شيء…

- أصدّق عيني… لا أستطيع أن أنسى تلك الفرحة التي غمرت عيناكِ ذلك اليوم.

- أيّ يوم؟!

- يوم عقد قرانك على جمال…

اختفت الابتسامة من وجه هدى، بدا حزنها واضحاً جلياً، اغرورقت عيناها بالدموع… قالت بحرقة…

- الظاهر أنّه نسي كل شيء.

تجمّدت العروق في وجه والدها العجوز…

- ومن قال ذلك؟! قد يكون مشغولاً؟!!

- أبي مازلت تبحث عن عذر له… منذ وفاة أمّي لم نشاهده ولم يكلّف نفسه حتّى عناء السؤال.

توجّهت إلى خزانتها، فتحتها وأخرجت صندوقاً، ناولته والدها.

- أبي هذه هداياه كلّها لا تنقص شيئاً… أعِدها إليه…

- هدى… لا تريدين جمال؟!

خنقتها عبرتها وقالت…

- هو من لا يرغب بي… هو يا أبي…

لم تستطع أن تكمل أو تخفي دموعها تلك اللحظة عن والدها… تركتها تخرج لعلّها تخفّف عنها بعض الشيء.

* ** ** ** ** - جمال…
- نعم لولوة…

- أريد أن أقول لك شيئاً…

- هل نسيتِ وصيّة الطبيب؟! منذ قليل نبّه عليكِ بِعدم الحديث…

- لابد أن أتحدّث…

- انتظري على الأقل حتّى نعود، أم أن الحديث لا يحلو لكِ إلاّ ونحن في السيّارة؟؟!

بعد طلاق جمال وهدى بدأت حبوب صغيرة في الظهور على شفاه لولوة، كانت صغيرة، ثمّ بدأت تكبر وتنتشر حتى امتدت إلى لسانها، التهبت تلك الحبوب وصارت قروحاً، لم تترك طبيباً لم تزره، لكن لا فائدة من العلاج… ساعتها أحسّت بتأنيب الضمير، وشعرت بفداحة ما فعلته بصديقتها التي لم تذنب يوماً في حقّها!!!.

- جمال… أرجوك… دعني أعترف لك… لقد ارتكبت خطأً شنيعاً… أنا… أنا…

- لولوة ماذا بكِ؟! اهدئي…

- جمال أنا من أعطى هدى رقم هاتفك… لقد كذبت… أجل كذبت عليها وعليك… أخبرتها أنّك لن تَتردّد في مساعدتها إن احتاجت لك… وأنّك من بعث لها الرقم…

هنا أخفت لولوة وجها بيدها وبكت بشدّة تكفيراً عمّا اقترفته.

* ** ** ** ** قرّر جمال أن يرد هدى، ربّما تأخّر قليلاً… لا لم يتأخّر، وماذا تعني أربعة أشهر؟!! كان واثقاً أن والدها لن يمانع… وهي؟!! سيطلب من والدته أن تزورها هي ولولوة… لقد وعدته لولوة بزيارتها.
* ** ** ** ** بعد انتهاء صلاة العشاء، انتظر جمال والد هدى…
- السلام عليكم…

هلّل وجه الشيخ فرحاً…

- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته…

- كيف حالك يا عمّي؟!

- الحمد لله بخير… وأنتَ يا ولدي كيف حالك؟!

- بخير ولله الحمد…

أكمل متردّداً…

- عمّي هل أستطيع أن أزوركم الليلة؟!

- على الرحب والسعة…

حينها تقدّم منهم شاباً وقوراً، سلّم على والد هدى بحرارة، مدّ يده ليصافح جمال على الرغم من عدم معرفته بِه، لم ينتظر والد هدى أن يسأل عنه، سبقه قائلاً:

- أعرّفك على المهندس عبد الرحمن زوج ابنتي هدى…

تمت !!!!!.


منقول

maia