شؤم الفواحش في المجتمع


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وأله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد : فمع تقدم إنسان هذا العصر ، وظهور التقنيات الحديثة ، وسهولة الاتصال بين بني البشر زاد في المقابل حجم الفساد وتنوعت أساليبه ، وتنافس عشاق الرذيلة وأهل الشهوات في إفساد الناس ، وعرض الفاحشة بأجمل صورة وأبهى حلَّة ، مع تسهيل الوصول إليها !!
لقد عظمت الفتن في هذا الزمان ، وأصبحت تطل علينا بوجهها الكالح من كل صوب ، وصارت الفتنة تتبعها الأخرى ، وترقق الآخرةُ منها الأولى !! بل وأعظم من ذلك وأطمّ أن المعروف صار عند كثير من الناس منكراً ، والمنكر معروفاً . وأصبحت مظاهر الفسق والفجور تسمى بغير اسمها . مصداقاً لقول الرسول - - كما عند ابن ماجة وصححه الألباني: " ليشربنَّ ناس من أمتي الخمــر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات ".
ولقد انتشر في هذا الزمان كثير من مظاهر الإباحية والخنا ، وتنوعت أساليب عرض الفاحشة وتسهيل الطرق الموصلة إليها في عدد ليس بالقليل من البلدان التي تخلت عن شريعة الإسلام واستبدلتها بقوانين وتشريعات بائدة ورثتها من الشرق أو الغرب .
وما عالم الفضائيات وما تبثه من سموم قاتلة ومشاهد خليعة إلا نموذج من نماذج المشاريع الإفسادية التي يراد تسويقها بين شباب المسلمين وفتياتهم لصرفهم عن معالي الأمور وحياة العفة والاستعفاف .
وأما الانترنت وما يحويه من صفحات إباحية ومنتديات آثمة فحدث ولا حرج ، وما هي إلا جزء من مشروع ضخم يراد منه إشغال الأمة في حمأة الشهوات الرخيصة والمتع المحرمة .فصار الأمر كما قال الله  ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ  .

وفي مقابل ذلك كله حينما يقوم أهل الغيرة والصلاح بتحذير الناس من مغبة السير في تلك السبل والدهاليز الشيطانية ينبري عشاق الرذيلة في كل زمان لينكروا على أهل الصلاح والعفاف حرصهم على حماية أعراض المسلمين ، وسعيَهم إلى سد أبواب الفساد والفواحش ، فيتهمونهم بالتخلف والرجعية تارة ، وبالتطفل والتدخل في حريات الآخرين تارة أخرى .
إنهم لصوص الأعراض ، الراغبون في جر المجتمع إلى مستنقعات الخنا والخبائث ، أولئك الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، ( وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا )
إن غاية مناهم أن لا يبقى في الأمة من يتصدى لمشاريعهم الهدامة ، ومكرهم الكبار ، الذين الذي لا يزالون جاهدين يحيكون خيوط مؤامراته بتدبير من شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا .
ولكن – بفضل من الله تعالى – لا تزال في الأمة بقية باقية على منهاج السلف ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويصبرون على الأذى فيما يلقون ، إنهم – كما يصفهم ابن الجوزي - " رجالٌ مؤمنون ، ونساءٌ مؤمنات يحفظ الله بهم الأرض ؛ بواطنهم كظواهرهم ؛ بل أجلى ، وسرائرهم كعلانيتهم ؛ بل أحلى ، وهممهم عند الثريَّا ؛ بل أعلى ، إنْ عُرِفُوا تنكَّروا ، وإن رُئيت لهم كرامةٌ أنكروا .فالناس في غفلاتهم ،وهم في قطع فلواتهم ! تحبُّهم بقاع الأرض ، وتفرحُ بهم أملاك السماء ." جعلنا الله وإياكم منهم .
إن المجتمع حين يستهين بانتشار الفواحش والموبقات ، ولا يأطر المفسدين على الحق ، ولا يأخذ على أيدي السفهاء ممن يسعون في خرق السفينة ، فإن العواقب – ولا شك – ستكون وخيمة ، والنتائجَ ستظهر مؤلمةً ومفجعة ، وسيصطلي المجتمع كله بنيرانها ولهيبها .
ولعلنا أن نستعرض في هذه العجالة بعضا من سنن الله – تعالى – في المجتمعات التي رتعت في حظيرة الشهوات المحرمة ، واستهانت بمعاقرة الفواحش والمنكرات . فمن ذلك :
أولاً : هلاك الأمم واستئصالُها :
والناظر في التاريخ يلمح بجلاء كيف كانت نهاية تلك الأمم التي جاهرت بفسقها وعصت ربها . فكانت العاقبة أن استأصل الله شأفتهم ، وصاروا أثراً بعد عين  فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ  [سورة الدخان : 29].
فهاهم قوم لوط ، أهلُ الفجور والشذوذ فسقوا عن أمر ربهم ، وجعلوا لأنفسهم نوادي للشذوذ يعاقرون فيها الفاحشة ، ويأتون أمثالهم من الذكور كما حكى الله تعالى ذلك عنهم فقال :  أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ  ومع كثرة نصح نبي الله لوط لهم والإنكار عليهم ، ودعوتهم إلى العفة إلا أنهم حاربوه وهددوه وأهله بالطرد والإبعاد من ديارهم !! والحجة :  أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ  !! فالطهر والعفاف صار عند القوم جريمة ، والفسوق والفواحش أصبحت فضيلة وأمراً لا يستنكرونه !!
فلما كان حالهم كذلك أنزل الله بهم عقوبة مروِّعة ، وعذاباً لم يكن لأحد قبلهم ؛ حيث رُفِعت قراهم إلى السماء حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم وصوت ديكتهم ثم قلبها الله عليهم  فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ 
ذكر ابن كثير في تفسيره عن قتادة قال " بلغنا أن جبريل –  - لما أصبح نَشَر جناحه فانتسف به أرضهم بما فيها من قصورها ودوابها وحجارتها وشجرها وجميعِ ما فيها !! فضمّها في جناحه فَحَوَاها وطواها في جوف جناحه ثم صعد بها إلى السماء الدنيا حتى سمع سكان السماء أصوات الناس والكلاب !! وكانوا أربعة آلافِ ألفِ ( أي أربعة ملايين ) ثم قلبها فأرسلها إلى الأرض منكوسةً ، ودمدم بعضها على بعض فجعل عاليها سافلها ثم أتبعها حجارة من سجيل "
وهكذا جرت سنة الله مع غيرهم من الأمم التي أعلنت فسقها ، وعتت عن أمر ربها كعادٍ وثمودَ وأصحابِ الرس ، وفرعونَ وقومِه ، وقومِ سبأٍ ، وأصحابِ الأيكة  فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 

ومن آثار التساهل في الفواحش والمنكرات في حياة الأمم :
ثانيا: شيوع الأمراض الفتاكة والأوبئة القاتلة :
إن المجتمعات حين تفشو فيها الرذيلة ، وتكثر فيها الفاحشة فإنها تكون مرتعاً خصباً لشيوع الأمراض التي يستعصي على الطب علاجها . وتلك عقوبة الله العاجلة لأولئك القوم الذين استمرأوا الفسوق والعصيان .
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - - : "لم تظهر الفاحشة في قوم ٍ قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا"
وهذا العصر الذي تروج فيه بضاعة الفساق ، وتفشو فيه الفواحش هو أكبر برهان على ما ذكره المعصوم -  - ، فها هي الأمراض التي لم تعهد في الأسلاف قد تغلغلت في مفاصل تلك الأمم التي جاهرت بفسوقها وعتت عن أمر ربها .
ذكر الدكتور محمد البار في موقعه على الشبكة العنكبوتية تقريرا مفاده أن منظمة الصحة العالمية (WHO) تقدر عدد الذين يصابون بمرض الزهري وهو أحد الأمراض الناتجة بسبب الزنا والشذوذ بخمسين مليون شخص سنوياً !!.

ويتصدر مرض السيلان قائمة الأمراض المعدية ، فهو أكثر الأمراض الجنسية شيوعاً في العالم إذ يتراوح الرقم المثبت في الإحصائيات حوالي مئتين وخمسين مليون مصاب سنوياً . وهذا لا يمثل الحقيقة ؛ لأن عد الحالات المبلّغ بها والواردة في الإحصائيات تمثل من عُشر إلى ربع الرقم الحقيقي !!
ومع خطورة هذه الأمراض وشدة فتكها إلا أنها لا تعدُّ شيئاً أمام داء العصر ومحيِّر الأطباء ألا وهو ما يسمى بمتلازمة العوز المناعي ، أو ما اشتهر باسم (الإيدز) . والذي صار سيفا مصلتاً على رقاب أهل الرذيلة والفسوق . وهو في ازدياد وانتشار كل يوم . ويبلغ الذين يُنقل المرض إليهم يوميا على مستوى العالم عشرة آلاف شخص !! وقد تسبب الإيدز في إضافة أكثر من ثلاثة عشر مليون طفل إلى قائمة الأيتام , كما وصلت مجموع حالات الإصابة بفيروسه في العالم إلى أكثر من ستين مليوناً!! لقي عشرون مليوناً منهم حتفهم !! وهذا فقط خلال الفترة من 1981-2001م .
وهذه الإحصائية تعدُّ قديمة ، وقد تضاعف هذا العدد وازداد ؛ نظراً لازدياد الرتوع في مسببات هذا المرض العضال من الزنا والشذوذ الجنسي !!
إنها سنة الله في عبّاد الرذيلة وأرقاء الفجور  وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ  0

ومن آثار ونتائج تردي المجتمعات في الفساد الأخلاقي
ثالثا: حدوث الخسف والمسخِ والزلازلِ وهلاك الزروع والأنعام :
إن الفساد حين يمدّ أروقته في المجتمع ، ويجاهر به الفساق في وضح النهار فإن ذلك مما يستجلب به سخط الله وغضبه . وحين يغضب الله تعالى فهذا يعني نزول عذابه وعقابه . وإذا نزل عذاب الله فلا راد له ، ولا صارف لأمره  وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ  .
وقد أنبأنا الرسول -  - بحال فئة من فساق أمته ممن يعاقرون الكبائر ، ويحاولون تزيين فعلتهم القبيحة وذنبهم المشين بأن يسموا تلك الذنوب بغير اسمها المعروف تضليلاً وتمويهاً على الناس .
فالخمر مشروبات روحية !! والزنا حرية شخصية !! والربا بيع وتجارة ...وكل تلك المسميات لا تغير من الحقيقة شيئاً ، ولا تستر عوار فحشهم وفجورهم . ومن كان هذا شأنه وهجِّيراه فقد عرض نفسه ومن معه لعقوبة الله التي ربما عاجلته وهو مقيم على ذنبه ومعصيته !!
عن أبي مالك الأشعري -  - قال : قال رسول الله - - : " ليشربنّ ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ، يعزف على رؤوسهم المعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ، ويجعل منهم القردة والخنازير "
وعند الترمذي وصححه الألباني عن عمران بن حصين -  - قال : قال رسول الله - - : " في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف ، إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور "
وفي البخاري عن أبي هريرة -  - قال : قال رسول الله -  - : " بينما رجل يمشي في حلَّة تعجبه نفسه ، مرجِّل جمته ؛ إذ خسف الله به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة "

وخلال هذا العام المنصرم أرانا الله جل وعلا مشهدا من مشاهد العذاب و الدمار الذي حلّ بعشرات الآلاف من البشر جراء ما يسمى بزلزال (تسونامي) والذي حدث في وقت وجيز وبسرعة مذهلة وأصاب ثماني دول وصلت ضحاياه إلى مئات الألوف !!
أتت الكارثة أول ما أتت على شواطيء ومنتجعات ما عرفت إلا بأنها أماكن للخنا والفجور وشرب الخمور.
ولا شك أنه قد ذهب في هذه الكارثة أناس ليسوا ممن ذكر ، وبعضهم مسلمون وفيهم أطفال وعجائز وشيوخ ، ولكن العذاب إذا نزل عمّ الجميع ، وكلٌ يبعث على نيته وما أسلف من عمل .وما حدث إنما هو بسبب شؤم أولئك العصاة الذين ظهر فسادهم واستشرى بلاؤهم .
ومثلها ما حدث مؤخرا في إعصار كاترينا والذي يحاول البعض آيسين إخفاء آثاره المدمرة التي ذهبت بالآلاف وشردت أكثر من مليون إنسان وبلغت الخسائر كما تشير بعض مراكز البحوث في تلك البلاد إلى أكثر من مئة مليار دولار !!
حدث هذا كله في أماكن أعلن فيها بالفواحش وشربت فيها المسكرات ، وفشا فيها اللعب بالقمار فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، ولم تنفعهم مراصدهم الفلكية ولا أجهزتم وتقنياتهم ؛ حيث باغتهم هذا الإعصار المروع فجعل المدينة كأنها عصفٌ مأكول ، لم يستطيعوا أمام قوته الهائلة أن يفعلوا شيئا ، وقد كانوا يرفعون عقيرتهم ويتجبرون على أمم الأرض قائلين : من أشد منا قوة ؟! {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ }
إنها قوة الله التي لا يملك البشر إزاءها إلا الإذعانَ والتسليم ، ( وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر )
وإن لم نتدارك أنفسنا فنحن على خطر ( فما أهون الخلق على الله إذا هم أضاعوا أمره ) وليس بين الخلق وبين الله نسب إلا طاعته جل في علاه .
وحتى ننجو من مكر الله وغضبه فلابد من إقامة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على أيدي المفسدين قبل أن يعم العذاب الصالح والطالح . ولما قالت أم المؤمنين زينب -  - كما في البخاري : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال لها النبي - - : " نعم إذا كثر الخبث ".
ذكر ابن عباس أن أهل السبت لما اعتدوا وخالفوا أمر الله فيما نهاهم عنه قال لهم الناصحون من قومهم : والله ما نراكم تصبحون حتى يصبِّحكم الله بخسف أو قذف أو بعضِ ما عنده من العذاب ، فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ، ونادوا فلم يجابُوا . فوضعوا سُلَّما وأعْلَوا سورَ المدينة رجلا ، فلما صعد واطل عليهم ماذا رأى ؟ لقد رأى والله منظر السوء فبهر حالهم فصاح في قومه وقال : أي عباد الله ، قردةٌ واللهِ تعادى تعاوى لها أذناب !! قال ففتحوا فدخلوا عليهم فعرفت القرودُ أنسابها من الإنس ، ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة ، فجعلت القرود يأتيها نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي ، فيقول : ألم ننهكم عن كذا ؟ فتقول برأسها :أي نعم ثم قرأ ابن عباس : ( فلما نسوا ما ذكِّروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون )
اللهم احفظ علينا ديننا وأعراضنا وبلادنا ، وأعذنا من مضلات الفتن ونزغات الشياطين
اللهم اكفنا شر الأشرار وكيد الفجار ، وعافنا واعف عنا ، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا .
والحمد لله رب العالمين .