د. محمد علي الهرفي

أستاذ جامعي سعودي

تبنى حزب الله في لبنان خيار المقاومة المسلحة هدفاً

استراتيجياً له في مقاومة الاحتلال اليهودي للأراضي

اللبنانية، وقد أثبت هذا الخيار أنه الملائم للعقلية

اليهودية التي لا تفهم إلا لغة القوة ولا تحترم إلا

الأقوياء. وليس من شك في أن الحزب ضحى بالعديد من رجاله

في سبيل تحقيق أهدافه، ولأول مرة في تاريخ اليهود الحديث

يخرج هؤلاء من بلد احتلوه من دون شروط مسبقة أو فوائد

متحققة، وكان خروجهم مهيناً. ولأول مرة استطاع العرب أن

يرفعوا رؤوسهم عالياً وهم يشاهدون هذا الانتصار الذي

تحقق لإخوانهم في بيروت، ويشاهدون في الوقت نفسه فلول

الجيش الإسرائيلي وهي تغادر الأراضي اللبنانية في جنح

الظلام، وقد ولت أدبارها إلى غير رجعة بإذن الله.



لكن اليهود استبقوا مزارع شبعا تحت احتلالهم بحجة أنها

أراضٍ سورية لا حق للبنانيين في المطالبة بها، لكن

دعواهم هذه باطلة بشهادة السوريين الذين أكدوا أن هذه

المزارع هي أرض لبنانية لا حق للسوريين فيها كما لا حق

لليهود فيها أيضاً، ومن هنا فإن حزب الله استمر يطالب

بإخراج اليهود من هذه الأراضي، واستمرت المناوشات بين

مقاتليه واليهود ولا تزال، وجاءت الأحداث الأخيرة في

فلسطين ورأى العالم ما فعله اليهود في إخواننا في

الأراضي المحتلة من قتل وتدمير وإتلاف لكل شيء، حتى ضاقت

المستشفيات بالقتلى والمصابين وأصبح الشهداء يُدفنون في

كل مكان.. قُتل الصغير والكبير والرجل والمرأة والعالم

كله يشاهد هذه المجازر وكأن الأمر لا يعني له شيئاً، بل

إن الولايات المتحدة كانت تبارك هذه الأفعال وتؤيدها

وتشجع عليها.. فالمسلمون في عرفهم لا يساوون شيئاً،

هانوا على أنفسهم فهانوا على الآخرين.. حزب الله وحده هو

الذي اتخذ مبادرة عملية حاول من خلالها تقديم دعم حقيقي

للمجاهدين في فلسطين، وتخفيف الضغط اليهودي عليهم، فوسّع

حجم عملياته في مزارع شبعا وأصبح رجاله يقومون بعمليات

شبه يومية على المواقع الإسرائيلية في أراضيهم المحتلة،

وتحملوا في سبيل ذلك القصف اليهودي على قراهم الجنوبية

المتاخمة للحدود. ولم يكتفِ الحزب بهذه العمليات، بل إنه

خطا خطوة أخرى، إذ عرض إطلاق سراح الضابط اليهودي

المحتجز لديه مقابل وقف العمليات الإرهابية ضد

الفلسطينيين في مخيم جنين. وجاء هذا العرض بعد أن كان

الحزب يرفض كثيراً من الحلول التي كان الإسرائيليون

يطرحونها عليه من خلال الوسطاء، إذ كان آنذاك يضع شروطاً

كثيرة مقابل موافقته على إطلاق سراح هذا الضابط، لكنه

الآن في محاولة منه لتخفيف الضغط عن إخوانه المجاهدين في

فلسطين، بادر بهذا العرض الذي لم يكن يقبل به لولا

الظروف الراهنة وتخاذل الجميع عن نصرة إخوانهم في الأرض

المباركة.



مواقف حزب الله ونوعية تعاطيه مع القضية اليهودية

والفلسطينية هي التي جعلت الرئيس الأميركي بوش يصنفه

بأنه حزب إرهابي يجب إسكاته بل والقضاء عليه، ومواقف

الحزب الأخيرة التي أشرت إليها هي التي جعلت بوش يطالب

سوريا من دون حياء أو خجل بأن توقف دعمها لحزب الله

ولحركة حماس، بل ومضى يهدد سوريا إن هي استمرت في دعمها

لهذا الحزب ولتلك الحركة. ويبدو أن هذه الأسباب نفسها هي

التي تجعل بوش يهدد إيران كذلك ويصفها بدعم الإرهاب

ويهدد بضربها عاجلاً أم آجلاً.. بوش يصنع ما يشاء "إذا

لم تستحِ فاصنع ما شئت".. ولماذا يستحي وممن يستحي إذا

كان لا يرى أحداً في هذا العالم يستحق أن يُحترم إلا

صديقه الحميم رئيس حكومة العدو آرييل شارون، الذي يقاوم

الإرهاب على شاكلته وبأسلوبه وطريقته ومستوى تفكيره

نفسه؟.. بوش لا يريد من أحد أن يزعج صديقه الحميم

"شارون" مهما كانت درجة هذا الازعاج، ولهذا فهو لا يكف

يردد مقولته الشوهاء، ان هذا الحزب إرهابي يجب إسكاته،

فكل من يقاوم اليهود لأخذ حقوقه فهو إرهابي.. ورحم الله

أصحاب العقول الذين لا ينتمي إليهم بوش أو شارون.



مواقف حزب الله التي ما زالت تثلج صدور الكثيرين وأنا

واحد من هؤلاء، تجعلني أقف عندها وقفات: الوقفة الأولى

ان أسلوب المقاومة العسكرية مهما كانت محدوديته، فهو

الأسلوب الأمثل للتعاطي مع القضية اليهودية، فقد أثبتت

التجارب أن أسلوب الحوار لا ينفع مع هؤلاء القوم، ولا

يمكن أن يستجيبوا لشيء من خلال هذا النوع من الحوار،

وتجارب الاخوة في فلسطين خلال السنوات الماضية خير برهان

على ما أقول. ومن هنا فعلى العرب إن كانوا جادّين في

حديثهم عن القضية الفلسطينية، أن يدعموا كل الحركات

الجهادية بالمال والسلاح والدعم السياسي المتواصل،

ضاربين بكلام بوش عرض الحائط، فهم على حق وهو على باطل..

وأجزم بأن الوطن العربي لا يخلو من مخلصين، لكن عليهم أن

يعرفوا الوسائل الصحيحة التي تحقق لهم الانتصار على

عدوهم، ودعم حركات الجهاد أولى هذه الخطوات. والوقفة

الثانية ان مواقف حزب الله من دعم الفلسطينيين السنّة

وتعرضه لكل ألوان المحن في سبيل ذلك، يجب أن يغير من

أفكار ومواقف بعض الناس الذين يجعلون اختلاف المذاهب

مدخلاً لكل أنواع الاختلافات الأخرى. إن المحن يجب أن

توحد الصف العربي والموقف العربي، وما يجري على الواقع

يجب أن يكون هو المقياس لا ما نقرأه في بعض الكتب مما لا

يسمن أو يغني من جوع.. إن وحدة المسلمين هي أول الطريق

لانتصارهم، ولا يمكن لهم الانتصار وهم متفرقون، وكل فرقة

لا تثق بالأخرى، وعلى عقلاء الأمة أن يمضوا في هذا

الطريق حتى يصلوا إلى نهايته. والوقفة الثالثة ان الحرب

القائمة الآن بين المسلمين واليهود لها جانب إعلامي، وقد

تفوّق اليهود في هذا الجانب، خاصة ما يُقدم للأميركيين

والأوروبيين، وهذا التفوق يضع الاعلام العربي في مواجهة

حقيقية مع الاعلام اليهودي، ويفرض نوعاً من العمل الجاد

لإيجاد توازن بين إعلامنا وإعلامهم.. وهنا يبرز موقف

رجال المال والاعلام في دعم قضاياهم كلها، ومنها القضية

الفلسطينية. وإذا كان بعض رجال الاعلام والمثقفين العرب

قد خذلوا قضية فلسطين وأساؤوا إليها من خلال توقيعهم على

ما سمّوه "بيان باريس" الذي أدانوا فيه أي عمل ضد اليهود

ومقدساتهم، في الوقت الذي صمتوا فيه عن إدانة اليهود

الذين هدموا مساجد المسلمين وكنائس النصارى في فلسطين،

أقول إذا كان هؤلاء ـ ومنهم للأسف الشديد بعض السعوديين

ـ قد ارتكبوا هذه الحماقة التي لن ينساها لهم التاريخ

ولن يغفرها لهم، فإن على رجال الأعمال أن يساهموا بجزء

من أموالهم في تقديم عمل إعلامي متميز يبرز الصورة

الحقيقية لطبيعة الصراع بين اليهود والفلسطينيين، ويجب

أن لا يكون اليهود أكثر حماسةً منهم في دعم قضاياهم

والانفاق عليها بسخاء شديد.. ومتى يكون الانفاق إذا لم

يكن في مثل هذه الظروف!



وأخيراً فإن حزب الله ظاهرة صحية في الجسد العربي

المريض، فهل نساعد على تنميته والوقوف إلى جانبه، أم

يغلبنا المرض فنموت؟.. لست أدري.