يدخل مكتبه صباحا، يسلم على من حوله من الموظفين، يخرج إفطاره، ويفتح شاشة الكمبيوتر. يبدأ بالبريد الإلكتروني، إنه يمثل له المقبلات التي تفتح نفسه للوجبة الرئيسية القادمة. يبدأ بعدها مباشرة بالدسم، ''تويتر''. يتقلب فيه بين جد وهزل، ورصانة وتفاهة، وثقافة وضياع وقت، ومع كل رابط، يجد نفسه حينا على صفحة جريدة إلكترونية، وحينا بين أحضان ''اليوتيوب''، وأخرى في منتديات تتراقص فيها أمامه الألوان التي تشبه الشوارع التجارية الرخيصة، ويختلط فيها الصدق والكذب والجد والهراء. يعود أدراجه بعد أن يمل ويصل إلى التغريدة التي انتهى عندها البارحة ليلا. يحس أنه شبع من توتير الآن، ينتقل مباشرة بعدها إلى الصحف الإلكترونية، يتابع فيها ما لم يحط به ''تويتر'' من أخبار البلد ويقرأ جميع التعليقات، بعضها تضحكه بخفة دمها، وبعضها تدهشه بعمقها، وكثير منها تصيبه بالغثيان من عنصريتها أو تفاهتها أو سلبيتها. يشعر هنا بالتخمة حقا، ولكن هل يمكن أن يترك المائدة من دون أن يحلي بـ ''الفيسبوك''؟ يأخذه الـ ''فيسبوك'' مرة أخرى إلى المزيد من الصفحات والمنتديات وإلى الـ ''يوتيوب'' حتما. يدور رأسه في النهاية، يشعر بعقله قد امتلأ فيقفل الجهاز ويقبل على عمله بعدما انتصف الصباح. بين المعاملات والمراجعين تستفزه نفسه إلى نظرة سريعة إلى ''تويتر'' بين أرتال الرسائل والاتصالات. حتى إذا انتصف الصبح بادر بالجرائد الورقية يفصفصها كأنه المحرر اللغوي للصحيفة!

إذا وصل البيت أخذ وجبة ''إنترنتية'' أخرى وإن كانت أصغر من وجبة الصباح. وفي الليل، تنتظره الوجبة الرئيسة، وهي عادة أكثرها دسما وبهارا، لا ينافسها عنده إلا اختلاسات لقنواته التلفزيونية المفضلة. وبين هذه الوجبات هناك اختلاسات أخرى كثيرة لشاشة الجوال عند إشارات المرور، وفي انتظار الصراف، وفي كل لحظة لا تحتاج تركيزا كاملا.

لماذا نسمح للآخرين بأن يختطفوا أعمارنا بهذا الشكل؟

تشير الدراسات الموثقة على العاملين في عدد من دول العالم أن الموظف يتعرض إلى انقطاع تركيز أو تشتت ذهني بسبب العوامل الخارجية كل ثماني دقائق، معظم هذه المشتتات ليس لها أي علاقة بالعمل ولا بأهداف الموظف الشخصية أو العملية. وتشير دراسات أخرى كثيرة أن أحد أهم أسباب التفكك الأسري والخلافات الزوجية هو التشتت الحاصل بسبب المؤثرات الإعلامية الخارجية مثل الجوال والكمبيوتر، إننا باختصار نعيش في ''عصر التشتيت''.

هذه المشتتات مثل الطعام، لا غنى لنا عنه، ولكن بقدر وانتقاء. بقدر، حتى لا تصيبنا السمنة والتخمة والمرض، وبانتقاء، حتى لا نملأ أجسامنا بالسعرات الحرارية الفارغة التي تزيد من الشحوم والترهل دون أن تشبعنا حقا، السعرات الحرارية الفارغة التي لا تمنحنا الفيتامينات ولا المعادن ولا المواد التي نحتاجها فعلا، وإنما ترفع السكر عندنا مؤقتا ثم تتركنا لجوع بعد جوع.

الوقت هو أغلى ما نملك في هذه الحياة، وحتى نعمره ونستفيد منه نحن في حاجة ماسة لجميع قوانا العقلية والنفسية والجسدية لتحقيق أحلامنا وأهدافنا الشخصية والجمعية ومحاربة كل ما يشتت طاقاتنا وفكرنا عنها من المتطفلين ومضيعي الوقت والسلبيين المحبطين ووسائل الإعلام الفارغة وغير ذلك.

الجميل أن كل تشويش يبدأ عادة ''بمشروع تشويش''، فإما أن نقول له تفضل ونسمح له باختلاس أعمارنا، أو نقول له لا، ونأخذ منه ما نريد في الوقت الذي نريد وبالقدر الذي نحتاج، وهو تحد ليس بالسهل أبدا، مثل الذي نواجهه أمام قطعة شوكولاته شهية أو صحن لحم يقطر دسما.

مرة أخرى، هناك رواد يصنعون الأحداث، وهناك الكثير الذين يتابعونها فقط وهم لم يبدؤوا بعد في محاولة، ولو محاولة، لتغيير أنفسهم وتحقيق أهداف ولو بسيطة في حياتهم، الخيار لي ولك في أي الفريقين نكون.

المصدر: الإقتصادية