هذه القصة واقعية مروية لأحد الكتاب المشهورين ،،،المعلومات و المصدر عن هذه المقالة ستكون في أخر القصة..............................................
والعبرة في النهاية.........((عند الملل لا تقفز إلى أخر المقالة حتى تلمّ بكافة التفصيلات))


كلفتني محطة الشرق الأدنى أن اكتب قصة لتذاع عني أول يوم من عيد الأضحى ، م هذا هو العيد قد حل عليكم فيه البركات و الخيرات ، و لكن القصة لم تكتب.....إن لها قصة يا سادة فاسمعوا قصتها........
###
أنا رجل من طبعه التأجيل و التسويف، أؤخر الأمر ما دام في الأجل فسحة أرجئه إلى آخر لحظة منه، ثم أقوم كالمجنون أنط قافزاً مثل الأرنب الذي زعم (أخونا..) لافوتين أنه نام حتى سبقته السلحفاة، وأن لم اكن قد رأيت في عمري سلحفاة تسبق أرنباً...

فلما ورد عليّ كتاب المحطة نظرت فإذا بيني و بتن موعد الإذاعة أمد طويل فاطمأننت و نمت، حتى ليلة العيد ولم يبقى أمامي إلا ساعات معدودة أكتب فيها القصة والحق بها البريد الجوي، أخذت قلمي و صحيفتي لأكتب فسدّت عليّ أبواب القول و منافذه و كواه...وعدت مرتجاً عليّ محبوساً لساني كأني ما مارست الكتابة قط، وكذلك نفس الأديب يا سادة تتفتح تفتّح الينبوع الدفاق، ثم تشح شحّ الصخرة الصماء ما تنبض بقطرة ماء، ولكن الناس لا يصدقون ذلك: إنهم يحسبون الكاتب يخرج المقال من نفسه كما يخرج التاجر البضاعة من دكانه، ولا يدرون أن هذا الكلام يجيء أحياناً حتى لا يقدر الأديب على ردّه، و يعزب حيناً حتى لا يلقاه، و أنه يعلو و يصفو و ينزل و يتعكر، وما عجزت الليلة عيّاً و لا فهاهة، فأنا أكتب في الصحف من عشرين سنة، ولكن الكتابة بالأجرة بيع و شراء ، و لكل مبيع ثمن، و أنا احب أن أنتصف و أنصف الناس من نفسي، لذلك رأيتني كلما سقطت على موضوع و وزنته فوجدته لا يساوي الثمن الذي تدفعه لي المحطة فتركته و فتشت عن أغلى، و كلما خطرت لي فكرة طمحت إلى أعلى، حتى كاد يمضي الوقت ولم أصنع شيئاً، و نزل بي ما نزل بالأستاذ توفيق الحكيم لما كلفوه أن يضع حواراً للفيلم، وجعلوا له جعلاً ضخم،اً فحصر فيه و فكر، و حشد له قواه، وفرّ لأجله من داره. ثم انتهى به الأمر و ألف كتاب(الحمار) ولم يضع الحوار.
عند ذلك أيست ولبست ثيابي، وهربت إلى الأسواق.
###

جلت في الأسواق ، وأسواق دمشق ليلة العيد كأنها المحشر، قد أوقدت فيها المصابيح، و فتحت المخازن ، و انتشر الباعة، و تدفق عليها أهل البلد و الفلاحون، بالأزياء المختلفة و اللغات المتباينات، وكل بائع ينادي برفيع صوته، وكل مشتر يصيح، و كل مجتاز يتكلم، والبضائع معروضات من كل مأكول وملبوس ومنظور ومشموم،وكل يريد أن يعدّ الليلة عدته للعيد فيشتري فيها طعامه ولباسه........

و كنت أسير في هذا الزحام شارد الذهن، نازح الفكر، أُعمل عقلي في هذه القصة... التي وعدت بها المحطة، فأعلنت عنها و بشرت بها ، ثم لم أستطع أن أكتبها ، حتى وصلت إلى( باب المصلى) ،- حي في أول (ميدان) الحصى في دمشق- فإذا أنا بحشد عظيم من الناس قد احتشد حيال دكان، فدفعني الفضول إلى معرفة الخبر، فأقبلت أدفع الناس بكتفي، و أشق طريقي بيديّ كلتيهما و أطأ أعقاب الناس و أقدامهم، و أصغي إلى هذا الفيض العجيب من .... النثر الفني ....... الذي جادت به قرائحهم ، فتدفق عليّ من ألسنتهم ، حتى بلغت المشهد و نظرت........

###
نظرت ، فرأيت اثنين يختصمان ويعتركان، أما أحدهما فكان مسكيناً قميئاً أعزل عاجزاً، و أما الأخر فكان ضخماً طوالاً كالح الوجه، مفتول العضل، وسخ الثوب ، قد حمل سكيناً في يده طويلة النصل، حديدية الشفرة، وهجم على صاحبه والناس ينظرون ولا ينكرون، وصاحبه المسكين يصرخ ويلتفت تلفت المذعور، يطلب الغوث ولا يغيثه أحد، و يبتغي المهرب فيسد عليه الناس طريق الهرب..........

وإني لأفكر ماذا اصنع... و إذا بالخبيث العاتي يذبحه والله أمامنا ذبحاً و يتركه يتخبط بدمه، و يوليه ظهره ويمضي إلى دكانه متمهلاً، فيعالج فيه شأنه على عادته، كأنه لم يرتكب جرماً ولم يأت الأمر النكر جهاراً!
وكدت أهجم عليه، و أسلمه إلى الشّرط. ثم تذكرت لأن الشجاعة في مثل هذا الموطن تهّور و حماقة، و أن المجرم بيده السكين. لا يمنعه شيء أن يجأ بها من يريده بشرّ،
وطمعتُ أن يتحرك أحد الواقفين فيقدم عليه فأتبعه وأشد أزره، فلا والله ما تحرك أحد منهم، ولا جرؤ على ذلك؛ بل لقد تكلم واحد منهم، فلما رفع القاتل رأسه و نظر إليه رأيته يجزع منه و يفزع، ويقول له بصوت مضطرب متلجلج: " الله يسلِّم يديك"!

وحرت ماذا أعمل: أأُبلغ الشرطة، أو أدعهم وأمضي إلى داري لا عليّ ولا لي؟ ثمّ رأيت أن خير ما أفعل أن أكتب و أصف ما رأيت و أبعث به ليذاع و يعرفه الناس.
###
وهأنذا أتهم هذا الرجل بالقتل، و أدعو الحكومة إلى القبض عليه حتى يعاقب و يكون عبرة لمن يعتبر. ولا يحسبن أحد أنه فرّ, أو أن القصة متخيلة أو مكذوبة، أو أنها من أساطير العصور الخوالي، فالقاتل موجود في دكانه، يغدو إليها ويروح إلى بيته، و القصة صحيحة رأيتها بعيني رأسي و أنا سالم العقل غير مجنون و لا معتوه ، متيقظ غير نائم و لا حالم ، صاح غير مخدّر ولا سكران ، ثمّ إني رأيتها البارحة!
###
هذه هي الحادثة الفضيعة التي كتب الله أن تكون هي موضوع قصّتي التي فكرت فيها وأطلت التفكير فكيف رآها الناس فلم يحتفلوا بها ولم يأبهوا لها؟ أفسدت الأخلاق ، وضاعت المروءات حتى لا ننكر الأمر النُّكر ، أم خارت العزائم ، و انخلعت القلوب حتى لا نجرؤ على المجرم الظالم ؟ و هل نامت الحكومة في الشام نومة أهل الكهف حتى ما تدري بالدم يسال في شارع من أكبر شوارع دمشق؟
لقد سكت الجميع، حتى أن أنسباء القتيل قد ناموا عن دمه وقعدوا عن الثأر له ، ولم يتقدم أحد منهم شاكياً و لا مدعياً لأن القاتل كما قالوا: عازم على ذبحهم كلهم إن قدر عليهم، وماضيه حافل بمثل هذه الجرئم.
..
!!
؟؟
فما سر هذا السكوت؟
؟؟
!!
..
لقد علمت السرّ بعد يا سادة...
...
...
!!!
..
..
؟؟؟

ذلك المسكين الشهيد كان خروفاً من خرفان الضحية، و أن القاتل كان جزّار الحارة، وان ّالناس شاركوه في جرمه، فأكلوا لحم الذبيح مشوياً و مقلياً و مطهياً و أكلت معهم، ونسيت من طيب اللحم هذا المشهد.

هذه هي سنة الحياة، يموت المسكين لنستمتع نحن بأكلة طيبة. فكلوا منه أنتم أيضاً هنيئاً ، و أشربوا مريئاً ، و اشتغلو بالأكل عن مطالبتي بالقصة. و كل عام و أنتم بخير!

من أحاديث الإذاعة، نشرت عام 1946 للشيخ علي الطنطاوي (تحت عنوان شهيد العيد)