هاذي بسمتي واللي الحكي اللي تحت موجود أسم صاحبه عليه
----------------------------------------
روما: مدينة الأطلال الجميلة الحية
معجب الزهراني
إذا كانت الهوية العميقة لمدينة فينسيا تنبثق من الماء وتنتشر في آفاقه وعلى سطوحه فان الهوية العميقة لروما تنبثق من المكان وقد تحول الى فضاء للزمن
التأريخي,, ومفهوم هذا الزمن ليس مستمدا من الكتب وانما من فضاءات الواقع اليومي في مدينة قيل عنها ان نصف سكانها، النصف الأحلى والأجمل، من التماثيل ,,
هكذا تتجاوز ذاكرة المدينة بفضل هذه الأطلال الحية الممتدة من حضارة روما ما قبل المسيحية الى حضارة روما الإيطالية,, ما بعد المسيحية,
ماذا قال شوقي عن هذه المدينة حينما وقف بها؟ لقد قال:
قف بروما وشاهد الأمر واشهد
ان للملك مالكا سبحانه
وأزعم ان قولا كهذا لا شعرية فيه وإن كان مترعا بمعان روحية سامية,, لماذا؟ لان الشاعر حاول المزج بين مرجعيتي الوقوف على الأطلال في الشعرية ما قبل
الإسلامية والوقوف الاعتباري التأملي على آثار السابقين كما في المرجعية الدينية الإسلامية فلم يوفق وبالتالي لم يوفق في الحوار مع روما ذات المرجعيات
المختلفة , فروما القياصرة وروما الفلاسفة وروما الفنانين من الأدباء والرسامين والنحاتين، وروما البابوات ليست طللا معتادا جامدا يمكن الوقوف عليه دون
مشاهدة حركاته وسماع اصواته, لقد احالها الشاعر الى أثر ميت أو صامت رغم انها المدينة الاوروبية الوحيدة، فيما أعلم، التي أحد مواطنيها,, ومن النصف
الأجمل ذاته! فتمثاله يطل على المدخل الداخلي لحديقة بورغيسي الجميلة بينما يحرس مدخلها الخارجي تمثالان احدهما لحافظ الشيرازي، والآخر نسيت صاحبه وليته
يكون عمر الخيام او جلال الدين الرومي! كم تمنيت لو ان مصمم هذا التمثال الأثر الجمالي الحي اختار بيتا آخر لأن الشاعر ربما قاله في سياق زيارة مأسوية
فبدت له روما هكذا,, فضاء لاعتبار لم يرق الى مستوى مشاعر التأسي والتسلي التي صاغها البحتري وهو يحاور إيوان كسرى في قصيدة من عيون شعرنا,, بل من عيون
الشعر باطلاق,
لا يهم فله في خلقه شؤون وللشعراء في نصوصهم شجون, لنعد الى روما روما التي كانت كل الطرقات تفضي اليها وها أنا اعبرها للمرة الأولى في مناسبة سعيدة
دونما شك,
روما هذه المدينة المفتوحة على الزمن مثلما هي مفتوحة على المكان وكأن الفراغات جزء أساسي من جمالياتها, في مدينة كهذه لا تشعر بوطأة المدن الكبرى التي
تذهب بجزء من جماليات التجول فيها مثلما قد يحدث في مدن كبيرة مكتظة بالبشر والآلات كباريس او لندن, تنزل الى قلب المدينة فتجد الأبنية العتيقة مسكونة
بالبشر العابرين الذين يجددون حيويتها كل لحظة ودونما تكدس او ازدحام! تتجه الى المسرح الروماني الكبير فتستغرب الا يكون بين عجائب الدنيا السبع لأنه وبكل
إنه يجسد عظمة القوة الامبريالية في Collosseo تأكيد أعظم وأجمل من برجي بيزا و إيفل مجتمعين, فهذا البناء صرح عظيم بأكثر من معنى، كما يوحي به اسمه
احدى أقوى وأكبر الامبراطوريات في التاريخ لكنه يجسد أيضا عظمة الانسان اذ يترجم فكره وذوقه ومعرفته الى أثر حضاري كهذا الأثر,
لقد كان هذا المكان الصرح فضاء للاحتفالات الرسمية والشعبية مثلما كان مسرحا للعروض الدرامية وملعبا للرياضة وفضاء لتعذيب الأسرى بقذفهم بين مخالب وأنياب
الوحوش الضارية لاختبار قدرة الكائن على مجابهة الموت في لحظة تختلط فيها أحط الغرائز السادية باسمى شهوات التطهر والخلاص! إنه مكان الذاكرة التأريخية
المتعددة بامتياز من هنا يمكن وضع هذا الأثر الدنيوي المتعدد الذاكرة مقابل الكاتدرائيات العظيمة كآثار دينية مبثوثة في كل مكان لكنها تحمل ذاكرة
واحدة ,
أعني ذاكرة الإنسان الذي يحتفل طوال حياته بما بعد الحياة، والموت هنا لا أكثر من لحظة انتقال ومحطة عبور, وبما ان العلاقة بين المكانين الأثرين لم تكن
منسجمة او حواريه باستمرار فقد فصل التاريخ بينهما، وان تواجدا في ذات الفضاء الروماني أو الرومي هذا, هذا تحديدا ما يجسده مبنى الفاتيكان الذي يعتبر
مدينة داخل المدينة ودولة داخل الدولة بعد ان ظلت سلطة المقدس تتراجع لصالح سلطة الدنيوي وكأن مجال اشتغالها الأمثل هو المجال الرمزي المتعالي على
الواقع,
أكثر من ذلك لقد تحول المكان الديني هذا الى مكان دنيوي بمعنى ما, الدليل على ذلك ان افواج السائحين من كل فج ولون وعرق ومعتقد تتجول فيه باستمرار وكأن
اقتصاديات المكان اصبحت من ضروريات استمرارية وجوده وادائه لوظيفته الروحية الرمزية,
وفي كل الأحوال فلم يكن لشخص مثلي يزور الفاتيكان لأول مرة من شاغل يشغله عن قراءة الأثر الجمالي المجسد والمصور والمشخص في كل جزئياته وفضاءاته, اما
المتعة التي تعاش وتختبر دون ان تحدد وتسمى فكانت تراودني وتبلغ الذروة وأنا أمام آثار واحد من أعظم فناني ايطاليا على مر العصور واعني به مايكل انجلو أو
ميشيل آنج أو ميكائيل الملاك كما يمكن ان نترجمه الى العربية مع ان العادة جرت بعدم ترجمة الأسماء,
لقد كان في ذاكرتي مدونة ما عن أعمال هذا الفنان، الرسام النحات، لكنني حينما وقفت امام تمثال الشفقة الشهير في الفاتيكان ادركت لماذا لم تكن العلاقة
بين الفنان وسلطة الكنيسة منسجمة وحواريه والتكرار هنا من مقتضيات المقام والمقال هذا!
فهذا الأثر الفني البصري هو شكل من أشكال القراءة وإعادة الكتابة الحرة والخلّاقة لأثر ديني لغوي عاينه الفنان من منظور إنساني جمالي بحت لقد قيل أن
السلطة البابوية الطاغية آنذاك اضطرت الفنان ذاته للبقاء عدة سنوات معلقا تحت أحد السقوف لينجز لوحة ما أن فرغ منها حتى تهدده العمى لكثره ما تساقط على
وجهه وجسده من عناصر! ورغم ان هذه الحكاية قد تكون بريئة تماما إلا أنها يمكن ان تنطوي على معنى الانتقام الأمثل من فنان تشكيلي تكن قوته كلها وضعفه كله
في عينه تحديدا,
سنخرج من هنا الى فضاءات أخرى لن يقود الحديث عنها الى أي مغامرة تأويلية خطرة, ها نحن في ميدان اسبانيا الذي بدا لي صورة ثانية صورة رومانية او إيطالية
من القلب المقدس في باريس فهنا وهناك يختلط العابر المقيم بالعابر السائح ويختلط الاثنان بالرسامين التشكيليين مثلما تختلط مشاهد اللوحات الفنية بمشاهد
الأماكن التي ترى من هذا المكان العالي, إنه مكان جميل، خصوصا في مثل هذا اليوم المشرق الدافىء الذي تحررنا فيه من أي التزام أكاديمي أو إجتماعي , هل
ستتكرر مثل هذه الزيارة الأكاديمية الجمالية السعيدة في كلتا الحالتين؟! لا أدري, لقد رميت من قبل بعملة معدنية في حوض النافورة الأشهر في قلب روما
المفتوح,, قيل ان هذا الفعل اللعبي الطقوسي يضمن العودة، بإذن الله تعالى، الى ذات المكان, قد يحدث هذا لكن المؤكد ان اللقاء الأول بالأماكن والبشر متعة
لا يمكن تكرارها وإن امكن التحدث او الكتابة عن بعض آثارها وهذا ما فعلت في انتظار ترحل آخر,