إن المتأمل للأزمة التي تشهدها منطقة دار فور في السودان لا يستطيع تفسيرها إلا إذا وضعها ليس في سياقها الداخلي فقط بل في السياق العام العربي وعلى الصعيد العالمي كذلك .

فيقول كولن باول وزير الخارجية الأمريكية في جزء من شهادته كولن باول أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ التي عقدت يوم 6/2/2003م إن الإطاحة بصدام حسين ونظامه يمكن أن تؤدي إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط بطريقة إيجابية بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحلفائها.

هكذا يعلن باول بصراحة ووضوح عزم الولايات المتحدة على الشروع في إعادة تشكيل المنطقة.

لقد ظهر للكثيرين أن مسألة القرار الأميركي تجاه العراق ليس قراراً ظرفياً، وليس قرار ردة فعل على ممارسة عراقية معينة، بل إن مسألة التعاطي بالقرار هي جزء من نظرة استراتيجية للإدارة الأميركية وفق أسلوب تعاطيها وتواجــدها؛ لا بل وضع يدها على واقع المنطقة ككل.

مجالات التغيير السياسي :

ينطلق التغيير الذي تريده الولايات المتحدة للمنطقة عبر محاور رئيسية:

النظم العربية نفسها من حيث بنيتها والتفاعلات الداخلية والخارجية لهذه النظم، ووفق التصور الأمريكي هناك نوعان من النظم:

الأول: نظم ذات علاقة خاصة مع الولايات المتحدة كالنظام الأردني والمصري والخليجي والمغربي والتونسي والجزائري، وهذه النظم تخطط الولايات المتحدة لتغيير نظمها التعليمية والإعلامية وأوضاعها السياسية والاقتصادية وفق آليات تغيير سلمية بالتنسيق مع حكومات تلك الدول مثل الضغوط الدبلوماسية والمنح والمعونات والبعثات التدريبية لنخبة معينة وبرامج الشراكة الاقتصادية.

أما النوع الثاني من النظم: فهي نظم غير صديقة لأمريكا مثل النظام السوري والليبي والسوداني والعراقي أيام حكم صدام حسين وهذه تمارس معها الإدارة الأمريكية الآليات غير السلمية كالعقوبات الاقتصادية أو الوسائل العسكرية. وهذه لها صورتان: الأولى هي التلويح بالقوة العسكرية المصاحب للضغط الدبلوماسي كما حصل مع سوريا مؤخراً، أو من خلال عمل عسكري مباشر يتمثل في شن حرب شاملة أو جزئية مثلما حدث مع النظام العراقي.

الإطار أو النظام الإقليمي الذي يجمع هذه النظم:

تتعدد الرؤى والأطروحات المتعلقة بالمنظومة الإقليمية التي تحاول أمريكا السيطرة بها على المنطقة، وبتتبع تاريخ بريطانيا مع هذه المنطقة نجد أنها ساهمت بشكل كبير في إنشاء جامعة الدول العربية كي تتمكن من إيجاد نظام إقليمي تتمكن به من السيطرة على المنطقة، وحاولت في وقت لاحق في عام 1955م إقامة حلف بغداد وضم في عضويته العراق وإيران وباكستان وتركيا بهدف تقوية دفاعات المنطقة، ومنع الاختراق السوفييتي للشرق الأوسط، وكانت بريطانيا تأمل في انضمام سورية والأردن إلى الحلف في مرحلة لاحقة لإكمال الطوق حول المنطقة، والآن تحاول الولايات المتحدة ممارسة دور الهيمنة على المنطقة عبر منظومة إقليمية جديدة، وتأمل إدارة بوش أن يكون الحلف الذي تسعى لتشكيله من الدول العربية الديمقراطية الحديثة أن يلاقي مصيراً أكثر نجاحاً من حلف بغداد قبل حوالي نصف قرن؛ فباكستان أصبحت منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر حليفاً أمريكياً يعتمد عليه؛ كما أن تركيا حليف قوي حتى وإن بدت بعض الغيوم أثناء الحرب على العراق.

ولكن الجديد في هذا الحلف هو دخول مصر؛ فقد ظهر اقتراح مصري بإنهاء دور الجامعة العربية وكأنه يمهّد لصيغة ما تلعب فيها مصر دوراً مركزياً في التشكيلات الأميركية الجديدة لدول المنطقة بعد التخلص من النظام العراقي؛ كما أن بعض المحطات الفضائية الأوروبية كشفت الورقة المستورة في الموقف الأردني عندما أشارت إلى مطار في منطقة الرويشد تنطلق منه طائرات الشبح الأميركية القاذفة والتي لا يكشفها الرادار فضلاً عن طائرات مروحية مقاتلة إلى شمال العراق.

ويؤكد المشروع أهمية منطقة البحر الأحمر الاستراتيجية مشيراً إلى أن هذه المنطقة مرشحة بقوة لأن تكون جزرها مأوى للإرهابيين، وأنه لا يمكن ضمان نجاح الترتيبات والأوضاع الأمنية الجديدة إلا إذا كان هناك استقرار في التخوم والمناطق المحيطة بها.

وأشار المشروع إلى أن إريتريا واليمن دولتان رئيسيتان في أمن البحر الأحمر بالإضافة إلى دول عربية وأفريقية أخرى، وأنه لا بد من النهوض بالتنمية الاقتصادية في هذه المنطقة، ومساعدة حكامها في اتباع سياسات أمنية ناجحة تمكنهم من القضاء على بؤر الإرهاب.

وأشار المشروع إلى ضرورة بحث إنشاء مجلس جديد للأمن في البحر الأحمر يضم اليمن وإريتريا ومصر والأردن، وقد تشارك إسرائيل فيه، وأن هذا المجلس سيحدد أيضاً جوانب التعاون السياسي والاقتصادي بين أعضائه محكوماً باتفاقيات سياسية واقتصادية مع الولايات المتحدة.

ويؤكد المشروع ضرورة وجود حلقات تنسيق وتعاون أمني جديد بين المجلس الجديد للأمن في البحر الأحمر وبين مجلس التعاون الخليجي، وخاصة أن البحر الأحمر يمثل تخوماً استراتيجية لدول الخليج.

والمشروع لا يستبعد السودان من التفكير في الأطر الإقليمية الجديدة للشرق الأوسط إلا أنه يؤكد أن السودان عليه إنجاز العديد من الواجبات حتى يعود إلى مساره الطبيعي وفقاً للرؤية الأمريكية.

الحدود والجغرافيا السياسية للكيانات العربية:

حيث إن هناك نظريات أمام الإدارة الأمريكية لتغيير الوضع الجيوسياسي للمنطقة تتمثل في:

- الإبقاء على الوضع الحالي للأنظمة في الخلط بين الأنظمة والكيانات، والتي سادت في حقبة النصف الأخير من القرن العشرين، بحيث كان بعض الحكام يمزجون بين حتمية استمرار النظام السياسي القائم ووحدة الكيان الوطني.

- تجزئة المنطقة العربية إلى كيانات عرقية وطائفية.

- الفيدراليات الديمقراطية. والمقصود به أوطان منقسمة على أسسٍ عرقية أو دينية أو مذهبية، ثمّ تجميع للقطع المبعثرة في صيغٍ فيدرالية ديمقراطية. وسيكون الوجود العسكري الأميركي القوي في منطقة الخليج وداخل العراق مستقبلاً بمثابة قوة ضاغطة [ومساعدة أحياناً] لضمان حقوق الأقليات في المنطقة وللوصول إلى الصيغ الفيدرالية الديمقراطية.

ولعل ما حدث في العراق يوضح ما تنويه أمريكا للمنطقة؛ حيث تصر على أن العراق سيكون المثل؛ فمنذ سقوط النظام العراقي والولايات المتحدة حريصة على إبقاء درجة من الفوضى تسري في أوصاله، بل ذكرت مصادر إعلامية غربية أن بعض هذه الفوضى قد سعى لها الحكم الأمريكي للعراق، وهذه الفوضى تحقق للولايات المتحدة الذريعة لتقسيم العراق إلى كانتونات في حالة إخفاق القوى السياسية العراقية في إيجاد نظام يحقق المصالح الأمريكية في المنطقة.

و لذلك فإنه من السذاجة تصور أن أحداث دارفور أتت في توقيتها بمعزل عن السياق السابق فهي تمثل نموذج مثالي للنوايا الأمريكية في المنطقة حيث أقلية عرقية تثور و تطالب بمطالب و كل ذلك لإعادة تركيب النظام السوداني وفق الأسس التي تحدثنا عنها سابقا و هي تتلخص في توليفة نظام تتركب من إسلاميين و علمانيين و صوفيين و جميع الأعراق و الأديان في السودان .