ــــــــــــــــــــــــــــ
كمثل أي درسٍ مضى .. بحثت في ثنايا الواجب المنزلي العمل لصغيرتي عن إجاباتٍ مغايرة .. تفحصت دفترها سطراً ، سطراً .. وجملة ، جملة .. ومفردةً ، مفردة
كنت - برغم أستاذيتي - أتلهف عن ما هو جديد .. أبحث عن تحليق .. عن كلامٍ مغاير لذلك الموروث والمألوف ... فقد ملّلت تدريس صغيرتي ، لشعوري بمللها ....؟
هذا ما كان بداخلي .. دون أن أشعر صغيرتي بهذا الملل الجاثم فوق همّةٍ لم تعرف الكسل قط .. أو هو السن وتقدمه ... أو هي تأثير الأحزان وأفعالها في النفس البشرية .. أو هي صغيرتي من أرادت أن تشعرني بذلك الملل وتمطيه وتثاؤبه .... لم أعد أدري ، بعد ليالٍ من عذابات الذات ووسوستها ..لأمورٍ فقدت تسلسلها المنطقي في عقلٍ ملدوغ ..؟!
تنحنحت وقلت بغضب :
- أجبتي تلميذتي عن سؤالك ... حين قلت لك بمؤخرة درسي السابق ( أنني فاقد حنان ) ..! فلما تقولين .. لماذا ..؟ .. وكأنك يا صغيرتي تجيبين السؤال بسؤال ..!؟
وتعترفين أيضاً بجريمة فعلتك بقولك .. أن سؤالك هذا غبي الطرح ... ؟ ، ثم تعودين ثانية .. لمغالطة غباءك بغبائك .... بقولك : ولكن لماذا ..؟؟
( وتابعت الغضب .. والأسئلة لتلميذتي ) .. إلى متى تبقين كـ تفاحة جادت أسناني بقضمها .. فاستسلمت ..؟ ، إلى متى تبقين كدمعة براقة في مقلتي أثرتها ذات كتابة .. فسقطت ..؟ ، لما تخلعين زيّك المدرسي بحضرة أستاذك .. ولو حتى لثواني ...؟
هل تصدقين .. لا أحبك فعل هذا ... أو حتى مثل هذا ..!؟
فلم يحن للوقت عطفاً عليك .. بأن يقدم عقارب التنازل ساعة .. ولا أفهم من تعطف الوقت هذا .. غير ذلك .. أيتها التلميذة المتسرعة ....!
لمحت في عينيها قلق غير منتظر .... فأردفت قائلاُ :
لا أريد أن تلبسين أجنحة السنونو ، برغم قدرتها الرائعة على التحليق .. لسوادٍ أجده قد تشوب في أغلب ريشها .. ألم تعرفين بعد كم أستاذك يمقتُ الظلام في لحظات الكتابة ..؟
وازداد الاتساع مساحة في حدقتيها .. وهنا لابد من بعض الحنو ، أمام براءة السحر في عيني صغيرتي .. فغيرت من نبرة الصوت إلى ما يشبه الرجاء :
كم كنت أرغب أن ترتدين أجنحة الحمام ..أو أجنحة النوارس .. !
قاطعتني كعادتها التي أمقتها في صغر سنها :
ولكن لماذا ... أستاذي ..؟
- لبياضها الناصع .. ولأنني طائر بحري مسالم .. وأريد من تلميذتي الصغيرة أن تخطو نحو سماءها العالية .. بخطى أستاذها الواثق من جنونه الأبيض ..!؟
وخلال صلصلتٍ لسيوف العتاب لتلميذتي .. وقع نظري على سطرٍ مغاير في واجبها المغاير ... فتحول حديثي من صلصلت حروبه إلى همسةٍ مستكينةٍ .. كمثل نسمة صباحٍ حانية ...
- يا لحنانك يا صغيرتي .. ويا لجمال الانسياب الوصفي في واجبك الحارق إليّ .. !؟
سألتها باستغرابٍ حمل من حقائب الذهول كل ما يدعو للدهشة والتعجب :
- من أين لك ذلك يا صغيرتي ...؟
واستطردت ... بت أخشى على قلمي من حلمي ..؟؟؟ ، بت أخاف كلماتك الشامخة .. وهمساتك الفاتنة .. ولمساتك الحانية ...؟
وبدهشة أثقل وزناً من تلك الحقائب الذهوليّة الحمل .. سألتها :
- أنت من كتبتِ :
تنام بضجرٍ بين أحضان جبالٍ موسميّة المطر ....؟
وكتبتِ أيضاً : أراكَ طفلاً يركض .. يركض .. يركض .. تخدعه خيالات الطفولة بأنه قادر على القفز بعيداً عن ظله .. أو حتى التخلص منه بركلة من قدمه الصغيرة ....؟
وهنا ، لم أعرف ما سوف أقوله ... وتلميذتي الصغيرة ، قد نست بلحظة ( ضعفي ) أنني أستاذها .. وأنني أكبر منها سناً ... فراحت تتخيل الأستاذ طفلاً .. ويركض ..!؟
ولكن أصرّ العناد تعنته .. كما كل مرة .. بأن لا أمدح صغيرتي .. فتغتصب الثقة لنفسها عنوةً ، في وقتٍ لم يسمح لها بثوانيه ودقائقه وساعاته ، بأن تزني ببراءة الثقة .. فتكسب أثم نفسها ، وقد كان بإمكانها الصبر لنيل تناسلها في الداخل .. بطريفة شرعية .. محببة للنفس .. وأقوى تمسكاً ، وثباتاُ بها .. فالوقت لم يحن بعد ، برغم دنوّه من نفسها .....؟
وبكل ثقتي المغرورة قلت لها :
- أستاذك يا صغيرتي ، أنا .. ولست بطفلك ... ! ، وقد أناقض أستاذيتي .. وأصبح طفلاً عند مثل هذا القول وهذا الإبداع .. ولكن ، أن تقول تلميذتي ذلك فلا تقبله ثقتي في نفسي ..؟
وأن قلته لنفسي فأنا أمارس الحرية في حق دكتاتورية نفسي ...!
ألست أستاذك يا صغيرتي ...؟؟
- نعم .. سيدي ..! ...... كانت قد قالتها بوجلٍ مزق ورود وجنتيها ..!
- إذن فلتنصاعي لدكتاتورية داخلي في حق داخلي ....؟
وفي هذه اللحظة .. شعرت بجبروتي ، وقسوة أستاذٍ ظالم في حق تلميذته وتلاميذه ... ولكن حقاً ، هل بعد الحزن والجد .. يتولد حزن وجد آخر ...؟؟!
وقبل أن أكمل ما أنا به .. تدخل الهاتف : يزمجر بنغماته .. وكأنه يسعد بقطع سلسلة أفكاري الذهبيّة اللحظة والتركيز ... فيجعل الدرس جحيماً لا يطاق داخل عمق الكتابة ، وعمقي داخلي .. عندما كان ( أحمد ) - وهو أخي الأصغر - يعاتبني على فعلتي التجاهلية في حق أبي وأمي .. وأنني لم أتصل بهما منذ أكثر من أسبوع .... وقد زاد بإصراره على مواصلة العتاب القاسي من ألم قد شكوته في كتابة عنونت بـ ( لحظة يأس وضياع ) ....!
لم أصدق أن ( أحمد ) يفعل بي ذلك وأنا أرجوه بـوابلٍ من مفردة : كفى .. وأقاطعه برجاءٍ شعبي النطق : أسمعني يا شيخ .. وبنداءات أسمه : يا أحمد .... فضاع صوتي ، بلجلجة عتابه الحارق ، وغياهب صرخاته اللائمة ....!؟
لا أنكر أنني شعرت بغيرته لوالديّ .... ولكنه ، كان أخي الأصغر .. ويجب ، يجب ... وهنا ، أيضاً أشعر بلا يجب تجتاح يجب .... وبكل عبثية جنونية اللحظة ، قلت له : ( يكفي ، تراك زودتها .. مع السلامة .....! ) ، وأغلقت سماعة الهاتف ..!؟
وعدت هنا ... وأين هنا ..؟
لم أعد أتذكر جيداً ما كنت به ... ولكن بين إبداعات تلميذتي ، وصرخات ( أحمد ) أجدني قد نجحت في تكثيف الإحساس باللحظة المفعمة .. بالتوتر المفاجئ .. وبدء ضياعٍ كتابيٍّ جديد ، وأنا في حضرة تلميذتي ... كمثل تلك الكلمات التي تحيد عن المنطقيّ القول إلى اللامنطقي .. عن المعلوم في الكلام إلى المجهول الرمزيّ الصياغة .. عن الوعي المألوف إلى لحظات اللاوعي ... فلا أجد عقلي قد بقي كما اعتمدناه هناك .. في الكرة الرأسية ... لأجد أن جنوناً أحتلّ موطن عقلي عنوة وقسرا .. ثم هناك قنديل لعقلي الباطن يشعل فتيلة في سواد عقلي المغادر من كرته الرأسية المكان ....؟
تهمّش الوعي .. وفي لحظات سيطرةٍ حافزة للاوعي .. سألت تلميذتي عن الواجب ..؟
قالت ببراءة :
- أنه بين يديك أستاذي ، وقد بدأت درسك هذا به يا أستاذي ..؟؟
- آهٍ .. نعم ، نعم ... أعرف ذلك .. ولكنني ...! ، فقاطعتني كمثل رنين ذلك الهاتف :
- يبدو أن هناك عنادٌ مائج برأسي سيدي ... هل تسمح لي بممارسته في حضرتك يا أستاذي ....!
- نعم .. بالتأكيد يا صغيرتي ... فأنا عودتك على الثقة في الحديث معي ومع الآخرين .. وكم يعجبني عنادك .. فذلك ما سيعمل على توالد الثقة في نفسك ... استمري القول ...
- إذن ... عفواً .. أستاذي ، اسمح لي في هذه اللحظات فقط أن أقول لك يا ( أبا عبدالله ) ، بدون سيدي أو أستاذي ....؟
- وهل أخبرتني صغيرتي .. بسبب مقنع .. عن فعل ذلك ....؟
- لا أعلم ... ولكن حين ننادي البشر بأسمائهم ، نشعر بأننا نتغلغل إلى أعماقهم .. ونكون جزء منهم ولو لثواني ...؟
- لا يهمني أن أوافقك الرأي .. ولكن هل تصدقين يا صغيرتي .. أشعر بتقدمك في التفكير والكتابة .. رغم أنني نبهت عليك أكثر من مرة أن لا تخاطبين أحداً خطاباً مباشراً ... ! ، فلتحاولي صياغة ما نطقت به شفتاك صياغة أدبية إبداعية ... حتى في واقع حياتك .. فأنت من اختارتِ طريق الكتابة مسلكاً لمسيرة حياتها ..؟
- أبا عبدالله .. أنني عقدت يداي أمام صدري .. وها أنذا أطالع وجهك .. فأستحلفك بالله ..... أن تبكي .. أبكي .. أبكي أكثر .. وأكثر ...
وقبل أن أتمكن من قذف حقائب الذهول التي حاولت عبثاً تحميلها على هشاشة كتفي .. أكملت حديثها برجاءٍ .. كاد قلبي أن ينفطر منه .. غير مكترثة لأحاسيس أستاذها ، وشفافية داخله ..!
- اجعل دموعك إمطاراً و أمطاراً تجرفنا وتدخلنا لآلة الزمن .. وتحملنا لطفولتنا .... وهناك سترى أنك لست وحيداً .. وأن دموعك ليست عيباً أو جرماً ... هناك ستكون أكثر قدرة على الصراخ .. على أن تركل كل شئ أمامك .. هناك ، مزق الورود من على عذوقها المتطاولة الأعناق .. فلن تجد لافتة إرشادية كتلك المانعة للتدخين أو للوقوف .. لن تجد لافتة تمنعك من لمس النباتات .. وتأمرك بمشاهدتها فقط .... هناك ، تستطيع أن تحرق كل الغابات ... هناك ، ستمنع قوس قزح من أن يرتسم بانحناءٍ كسول بعد يومٍ ماطر ... هناك ، تستطيع أن تقنع الشمس من أن لا تشرق على أراضٍ استوائية حارة ..... هناك فقط يا ( أبا عبدالله ) ، تستطيع أن تفعل ما يحلو لك .. لن تسمع قولاً قد مللت سماعه عندما بكيت .. فلقبوك بـ ( المجنون ) .. وبـ ( المتمرد ) .. وبـ ( نافور ) ... وألقاباً لا ترضي علمك وأدبك وثقافتك وأخلاقك وصدقك ... هناك ، فقط .. لن تسمع سوى مثل قولي :
هذا طفل صغير .. بعيون باكية دامعة
وجدت رأسي .. وكلماتها الحانية تلجّ في كل مساقط تكويني .. ينحني للنظر إلى أرض المجلس ... فأردفت القول :
- أبا عبدالله .. عرفت كيف تجعلني أحنث بوعدي ، بأن لا أهيم بأستاذي .. في لحظات قوتك وجبروتك ... ولكنك لم تعرف أن تخفي طفلك عنّي .. فمددت يدي حتى ألامس شعره المهمل منذ سنين .. لأحاول أن ألملم بقاياه المبعثرة .. انكساره .. حزنه النبيل .. غضبه .. ملله .. رؤيته للوجوه بملامحٍ واحدة ، وكأن من يحيطك من أبناء اليابان ( أحادي الملامح ) ... كلهم سواء .. لا فرق .. لا فرق



------------------
أحب الصدق وأعمل به كسبته وكنت أنا الخسران ** ولو صدقي يخسرنى تشرفني خساراتي