تمحورت الأجندة السياسية للإدارة الأمريكية حول مبادئ أساسية، على رأسها أن يكون العمل الدولي تحت قيادة أمريكية، أو بمبادئ أمريكية و إلا أصبح مرفوضًا.

ولعل هذا المبدأ يفسر لنا بوضوح أسباب تحلل إدارة بوش من أغلب الاتفاقات الدولية، التي انضمت إليها واشنطن.



أما المبدأ الثاني فهو أن تفرض الولايات المتحدة هيمنتها الفكرية والثقافية على العالم, من خلال 'التبشير' بالقيم الأمريكية، وهو ما يفسر أسباب تدخلها المستمر في منظومة الدول العربية التعليمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية بحيث تتواءم مع المنظومة الأمريكية.



أما المبدأ الثالث فيتجسد في إعلاء فكرة الهيمنة الأمريكية, وضرورة خضوع الجميع للسياسات والتوجهات الأمريكية, وهنا يتفتق الذهن الأمريكي عن الممارسات والأساليب التي تضمن له السيطرة علي الدول وإخضاعها كسبيل لتحقيق مصالحة التي هي بطبيعة الحال تسير علي ذات نسق المطالب الصهيونية.

والى جانب ترغيب الدبلوماسية, وترهيب الحروب, وهما جناحي السياسة الدولية التي بات أساسها منبثقا من 'مفهوم القوة' جاءت اللجان النوعية الأمريكية لضمان تحقيق المصالح الأمريكية, أو بالمعني الأدق تهيئة الأوضاع علي الساحة الدولية للتدخل, سواء بشقه الترغيبي المتمثل في الدبلوماسية, أو بشقه الترهيبي المتمثل في الحروب.

فهناك لجنة حقوق الإنسان، ولجنة معاداة السامية، ولجنة أسلحة الدمار الشامل، ولجنة جرائم الحرب.

ومن بين تلك اللجان ذات الطابع المشبوهة ما يسمي بلجنة الحريات الدينية الأمريكية.

ونريد من خلال النقاط الآتية التغطية قدر الامكان علي تاريخ هذه اللجنة المشبوهة ومعايير التقييم التي تطبقها, وأهدافها التي تصبو إليها.



تاريخها
بدأ التفكير في لجنة الحريات عام 1996 في عهد وزير الخارجية الأمريكي وارين كريستوفر, وخرجت للوجود عام 1998.

ويرأس هذه اللجنة سفير أمريكي, ويعاونه 20 من المسيحيين واليهود, من بينهم مسلم واحد, ذرا للرماد في العيون.

الأهداف : ـ
ـ تنحصر أهداف هذه اللجنة في تهيئة وتحقيق تطلعات السياسة الخارجية الأمريكية, حيث تستخدم الخارجية الأمريكية التقارير المنبثقة من هذه اللجنة كسيوف مسلطة على رقاب الدول التي لا تسير في ركب السياسة الأمريكية, أو تلك التي تحاول التملص من الهيمنة الأمريكية.

حيث تصدر هذه اللجنة تقريرًا سنويًا, يخضع بطبيعة الحال لمزاج ورغبة الإدارة الأمريكية.

ـ وتكمن خطورة هذه التقارير في أنها تعد مبررا للإدارة الأمريكية كي تمارس ضغوطا وتفرض قيودا على الدول المتهمة, وفق المعايير الأمريكية, بانتهاك حريات الأديان.

ـ فوفق نظام إدارة الحريات الدينية الأمريكي تختار الحكومة الأمريكية الدول التي تصفها بالمارقة في هذا المجال، بحيث تقرر نوع العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية التي تعتزم فرضها عليها, ما لم تساير هذه الدول الرغبات الأمريكية, وتسير وفق الأجندة المحددة.



وإذا ذهبنا ندلل علي ما نقول صادفتنا النماذج الآتية: ـ

ـ بعدما دخلت الخلافات بين السعودية والولايات المتحدة مرحلة قريبة من الصدام عقب تفجيرات 11 سبتمبر, ووضوح رغبة الرياض في إخلاء المواقع العسكرية الأمريكية هناك, ظهر انتقاد السعودية لأول مرة في تقرير اللجنة لعام 2001.

ـ كما ظهر التركيز على ما سمي انتهاكات ضد المسيحيين في جنوب السودان، والتطهير العرقي في غرب دارفور تمهيدا لانتزاع تنازلات من الخرطوم في اتفاقات نيفاشا وقبول تدويل قضية دارفور.

ـ تصدر تقارير عن انتهاكات الأديان والحريات وحقوق الإنسان في مصر قبل أي زيارة للرئيس المصري إلى أمريكا بهدف الضغط والحصول على تنازلات.

وقد ظلت التقارير الصادرة عن مصر على الدوام تحظى بأهمية خاصة, وتسعى للعب على وتر الأقلية المسيحية في مصر.

ـ وقد لخص الدكتور محمد حبيب النائب الأول للمرشد العام لجماعة الإخوان في مصر الأهداف المشبوهة للجنة الحريات الدينية الأمريكية بقوله: إنها 'تمثل إحدى الأدوات الأمريكية للتدخل الواضح والسافر في شؤون البلاد، وأنها إحدى وسائل الضغط والابتزاز التي تمارسه الحكومة الأمريكية ضد الحكومات العربية والإسلامية من خلال اللعب بورقة حرية الأديان والأقليات وحماية حقوق الإنسان, من أجل تنفيذ أجندة المشروع الأمريكي في المنطقة والتي عادة ما تتطابق مع مشروع العدو الصهيوني الرامي إلى السيطرة والهيمنة على المنطقة وتفتيت دولها وإضعاف كياناتها'.



ـ المسألة إذن المصالح الأمريكية وفقط، وكلما كثرت اللجان الأمريكية والتقارير، سهل ذلك للإدارة الأمريكية والكونجرس تطويق الدولة المراد 'تليينها' بحزمة من القيود طلبا للرضوخ وتقديم المزيد من التنازلات.



معايير التقييم:

القضية الخطيرة فيما يخص لجنة الحريات الدينية الأمريكية وتقاريرها، أنها تسير على نفس المنوال الذي تتبعه الإدارة الأمريكية، والمتعلق برفض المعايير الدولية, وتطبيق معايير خاصة منبثقة من الثقافة الأمريكية.



ـ وهذا ما يدل عليه قول السفير جون هانفورد مسؤول شؤون الحرية الدينية بالخارجية الأمريكية, والمشرف على التقرير في مقدمة تقرير 2002 من كونه يستند في تقييمه إلى 'القيم الأمريكية الأساسية'.

ـ ولا يمكن أن نفهم هذه المعايير الأمريكية أكثر من مستشار الأمن القومي الأمريكي

زينو برجينسكي في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر الذي ذكر في كتابه 'الفوضى' مدى التناقض الذي يميز نظرة العالم للولايات المتحدة ونظرة الأمريكيين نفسهم لها حيث قال : 'إن العالم قد أصيب بعدوى القيم والصور التي يفرضها الإعلام الأمريكي عليه وهو ما يسمى بالإمبريالية الثقافية، فهل حقا تستحق الولايات المتحدة أن تكون مصدرا للقيم في العالم حتى وإن حازت على مفاتيح القوة الاقتصادية والعسكرية, إن مستوى التعليم في أمريكا متدن جدا بالمقارنة بالدول الأوروبية وحتى تلك في جنوب شرق آسيا, فهناك 23 مليون أمريكي يعيشون في جهل تام.

وإن أحياء الفقراء تتميز بانعدام وجود بنية تحتية تصلح للعيش الأدمي.

وقد تشكلت ملامح ثقافة جديدة تسمى 'ثقافة المخدرات' على اعتبار أن هذه السموم قد أصبحت نمط الهروب النفسي من المشاكل التي يعانيها الأمريكيون, والعائلة انهارت كمركز للمجتمع الأمريكي لاستفحال الإباحة الجنسية والشذوذ الذي أدى إلى استشراء 'الإيدز'، فضلا عن الدعاية الهائلة للفساد الأخلاقي من خلال الإعلام المرئي'.

ـ كما علق المؤرخ الأمريكي تيد هاير على تورط الرئيس كلينتون في فضيحة مونيكا ليوينسكي، واستمرار تأييد الرأي العام الأمريكي له على الرغم من ذلك قائلا : ' إن أمة تقبل أن يقودها شخص على هذا القدر من الانحطاط الأخلاقي لا يمكن أن تستمر في تبوأ قيادة هذا العالم'.



وعلى ذلك فليس مستغربا أن تعتبر تقارير الحريات الدينية الأمريكية انتشار الإباحية تقدمًا في أفغانستان، وسعي السفارة الأمريكية في مصر للدفاع عن الشواذ جنسيًا نوعا من الدفاع عن الحريات الدينية.

وليس بغريب أن تدافع عن البهائيين وشهود يهوه وأي جماعة دينية منحرفة لا تؤمن بالأديان السماوية.



ازدواجية وانتقائية مذهلة
ولأن هدف اللجنة هو المصالح الأمريكية، وربيبتها المدللة 'إسرائيل', فمن الطبيعي أن يتميز عمل هذه اللجنة بالازدواجية، والانتقائية المذهلة.

حيث لا تتطرق تلك اللجنة إلي الإهانات التي يوجهها القساوسة الأمريكان للإسلام رغم أنهم يحصلون على نصف مليون دولار من ميزانية الحكومة الأمريكية كدعم، ولا لتلك التي يوجهها الحاخامات اليهود للدين الإسلامي, ولا العبارات والتصريحات التي تحمل العداء الواضح للإسلام والمسلمين, كتلك التي أطلقها بوش الابن غداة هجمات الحادي عشر من سبتمبر حيث صرح بأنها ' حرب صليبية جديدة'.



وإذا أردنا الدلالة علي تلك الازدواجية التي تراعيها حق الرعاية تلك اللجنة المشبوهة فسنجد الأتي:

ـ زار وفد من لجنة الحريات الدينية كلا من مصر والسعودية و'إسرائيل' عام 2001، وعندما حان وقت إعلان تقارير الحريات الدينية عن الدول الثلاثة صدر تقريران فقط ينتقدان مصر والسعودية بشدة.

وأعلن رئيس اللجنة آنذاك 'إبرام وليامز', وهو أحد صقور اليمين المتطرف الموالي للصهاينة, أنه تم حجب التقرير الخاص بـ'إسرائيل' وعدم إذاعته.

وتم حجب هذا التقرير رغم أن هذه الفترة شهدت انتهاكات صهيونية بشعة لحريات المسلمين الدينية, ومنعهم من الصلاة في الأقصى والحرم الإبراهيمي وقتل مصلين واعتداءات على مساجد وهدمها.

ـ كشف أعضاء في لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان المصري, خلال الزيارة الأخيرة لهذه اللجنة لمصر, أن أعضاء اللجنة الأمريكية دافعوا بطريقة غريبة عن الممارسات الصهيونية في الأراضي المحتلة.

وقالوا: إن برنامج زيارتهم لا يشمل 'إسرائيل'، كما أن رئيسة اللجنة القريبة من اللوبي الصهيوني في أمريكا قالت لهم في انحياز واضح: 'إن المقاومة الفلسطينية إرهابية'، وإن 'من حق الإسرائيليين الدفاع عن أنفسهم حتى لو كان ذلك من خلال هدم الكنائس والمساجد بحجة أن الفلسطينيين يستخدمونها في مقاومة المحتل.

ـ وفي 6/1/2002 ظهر الإرهابي الصهيوني جيري فالويل في تبجح سافر, وهو في مأمن من تقارير اللجنة المشبوهة, ليقول:'أنا أعتقد أن محمدا كان إرهابيا, وأنه كان رجل عنف ورجل حروب', فأين كانت اللجنة ساعتها؟

ـ وأساء زعيم آخر للمسيحية الصهيونية وهو 'بات روبرتسون' للرسول صلى الله عليه وسلم حين تحدث في برنامج 'هانتي وكولمز' الذي تبثه قناة 'فوكس نيوز' حيث اتهم الرسول عليه الصلاة والسلام 'أنه لص وقاطع طريق'.

ـ وخدمة لنفس المخطط الشيطاني تحدث القس 'فرانكلين جراهام' واتهم الإسلام بأنه'ديانة شر', حيث قال في 10/11/2002 :' ينبغي علينا الوقوف بوجه هذا الدين الذي يقوم على العنف, إن إله الإسلام ليس إلهنا، والإسلام دين شرير وحقير'.

هذا القليل من كثير تذخر به عقائد الغرب ضد الإسلام والمسلمين, وما نجد من اللجنة إلا الصمم إذا كان الناعق غربيًا صهيونيًا كان أو مسيحيًا, ولكن سمعها مرهف لأحاديث المسلمين, وحسها يستشعر دبيب النمل في بلاد المسلمين.



وأخيرا: ـ
لسنا نعيب علي الأمريكان خدمتهم لمصالحهم وولائهم لمفاهيمهم, ولكن اللوم لأولئك الذين مسخوا هويتهم بأيديهم, ووهموا أن مصالحهم في أدراج البيت الأبيض.