'إنني أحدثكم عن دارفور، تلك المنطقة التي تشهد [كارثة إنسانية] وهي بحاجة إلى [صلواتكم]، هلم إليها إنها بحاجة إلى [كلمة المسيح]...' هكذا قال يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان مخاطبًا المسؤولين عن المنظمات التنصيرية العاملة في أفريقيا .

وكانت كلمات بولس توجيها للمنصرين في أفريقيا أن اتجِهوا فورًا إلى السودان فهناك صيد ثمين، لا سيما إذا اتفق ذلك مع تصريحات جورج بوش الذي قال لأعضاء اليمين المسيحي بالكونجرس الأمريكي وبحضور صديقه المنصر الشهير فرانكلين جراهام:' لن أنسى السودان أبدًا، وإن نسيت فأنتم من ورائي' .



تمهيد حول التنصير في أفريقيا والسودان عمومًا



هناك حيث الفقر والمجاعات، حيث الفيضانات والحروب الطاحنة، حيث انتشار الجهل والفوضى، هناك في القارة السوداء.. حول المنصرون رحالهم بعد الإفلاس العقائدي للمسيحية في أوروبا، والزحف الإسلامي العالمي المتوالي.

واستطاعت أيدي المنصرين – مستغلة حاجة إنسان جاهل إلى لقمة تسد جوعه الملتهب، أو دواء يتجرعه، أو سقفا يأوي إليه- استطاعت هذه الإرساليات التنصيرية أن تخرج الكثيرين من سكان أفريقيا من عبادة رب العباد إلى عبادة العباد.



أما في السودان فقد كان لها نصيب بشع من الهجمات التنصيرية التي لا تقنع بزيادة أعداد المنتسبين إلى الكنائس فحسب، بل تجعل من مبادئ عملها زرع عقيدة 'مقاومة الأديان'، وبناء روح التمرد الذي لا يعرف رحمة ولا هوادة، على الرغم من شعارات المحبة والإحسان التي درج عليها المنصرون وأتباعهم.

وبالإضافة إلى حرص زعماء الكاثوليك والبروتستانت في العالم على زيادة أعداد النصارى؛ فإن التنصير أيضا يعد أداة ناجعة في تخريب الدول وتفكيكها مما يسهل الطريق على الغزاة العصريين أن يقتحموا تحت ستار الإنقاذ والإصلاح وحماية الحريات الدينية.

وإن رمنا التحقيق فإن خطط تنصير السودان بدأت قديما، وبالتحديد في عام 1971 حينما بدأ الاحتلال البريطاني في بناء سياج سياسي وإداري بين شمال السودان وجنوبه، فقد شجع الاحتلال الإرساليات التنصيرية وفتح لها الباب على مصراعيه، وحولت العطلة الرسمية في الجنوب من الجمعة إلى الأحد، واستبعدت قوات الأمن الإسلامية من المناطق الجنوبية.

وفي عام 1921 أصبح هناك فصل إداري بين الشمال والجنوب، بعد أن قرر الاحتلال أن يعتمد الجنوب على حكام جنوبيين.

وخطا الاحتلال البريطاني خطوات أوسع حينما أصدر قانون 'المناطق المقفلة' والذي بموجبه أصبحت كل من مديرية دارفور، والاستوائية، وأعالي النيل وبعض أجزاء من المديريات الشمالية، وكردفان، والجزيرة ، وكسلا، مناطق معلقة.

وقانون المناطق المغلقة يحرم على غير المواطنين السودانيين دخول أو البقاء في هذه المناطق إلا بإذن خاص من السكرتير الإداري أو من مدير المديرية التي يتبعها ذلك الجزء الممنوع دخوله، وكذلك من حق السكرتير الإداري أو مدير المديرية المختص منع أي مواطن سوداني من الدخول أو البقاء في تلك المناطق.

وهكذا فصل الاحتلال بين المسلمين في جنوب السودان وبين إخوانهم في الشمال، بل وبين كل ما يربطهم بالإسلام, حتى أولئك الذين كانوا يحملون أسماء عربية أجبروا على تغيير أسمائهم، ومنع أو حرم التخاطب باللغة العربية لتحل محلها اللغة الإنجليزية، وأطلقت يد إرساليات التنصير، ووضع التعليم تحت إدارتها، فأخذت تلك الإرساليات تنشر سمومها ودعاياتها المغرضة ضد الإسلام وضد العرب في الجنوب.

ولم يكن بابا الفاتيكان 'يوحنا بولس الثاني' يعبث حينما زار السودان في أوائل التسعينيات حيث نصب في الساحة الخضراء في السودان صليبا بطول اثني عشر مترًا.



ذباب التنصير يتساقط على دارفور



وبعيدا عن حقيقة الصراع في دارفور، وعن موقف الحكومة منه .. فما يعنينا الآن هو إلقاء الضوء على خطر التنصير الذي يهدد هذه المنطقة من العالم الإسلامي، فكما يسقط الذباب على القاذورات ويتسابق إليها، لم يترك المنصرون مأساة الخوف والتطاحن والمجاعة في 'دارفور'، لا سيما مع هذا الزخم الإعلامي المصطنع، والاهتمام الأنجلو أمريكي المفاجئ بمآسي مسلمي دارفور عربا وأفارقة، ولا عجب فقد قفزت 'دارفور' لتصبح جزءاً من الأجندة الانتخابية لكل من «بلير» و«بوش»، إذ يحاولان الصعود بها من المستنقع العراقي ولو قليلا!.

ومما يجدر بالقارئ الكريم أن يعلمه أن إقليم'دارفور' الواقع غربي السودان لا يكاد يوجد بين سكانه نصراني واحد، واشتهر أهله بأنهم حفظة للقرآن، بل يحتلون المراكز العالمية الأولى في مسابقات حفظ القرآن، وهم من أكثر الأقاليم تديناً في السودان، وطالما نعم بالهدوء والتعايش بين القبائل المختلفة.



المنظمات التنصيرية العاملة في دارفور



لعل من أوائل المستفيدين من تضخيم أحداث دارفور ذباب التنصير الذي وجد بالفعل سبيله إليها وسط الضغوط الدولية على الحكومة السودانية للسماح لمنظمات'الإغاثة' بالتحرك في الإقليم.

فهذا بابا الفاتيكان أبدى انزعاجه وقلقه على ما يعانيه مسلمو دارفور!

وأرسل مبعوثا شخصيا له وهو رئيس الأساقفة الألماني 'بول كوردز' إلى السودان أواخر شهر يوليو 2004، للضغط على الحكومة السودانية لتسرع في إدخال المنظمات الكاثوليكية وتقدم لها التسهيلات، والأهم من هذا هو السماح للفاتيكان بتقديم 'تضامنه الروحي' للمنكوبين أي التنصير.

إن عدد المنظمات التنصيرية العاملة في دارفور يزيد عن خمسة وعشرين منظمة، فهاهي منظمة كاريتاس الكاثوليكية فرع نيويلندة الجديدة التي لم تكتف بطاقمها الذي يربو على المائتين بل تنادي بـ [منصرين متطوعين] كاثوليك للمشاركة في أعمال التنصير تحت ستار [الإغاثة] المزعومة في السودان .

وقال راديو الفاتيكان إن منظمة جديدة أسست من أجل تقديم الخدمات الطبية في أفريقيا وخاصة السودان، وتدعى 'السامري الصالح'.

وليس البروتستانت بأقل حماسا من الكاثوليك في التنصير بدارفور، فهذه الكنيسة النرويجية الإنجيلية اللوثرية تقوم بحملة تبرعات لا تزال مستمرة لتنصير مسلمي دارفور تحت ستار المساعدات الإنسانية، وخاصة من نزح منهم إلى 'تشاد'.

ومن بين المنظمات التنصيرية التي كرست جهودها مؤخرا في دارفور: منظمة 'ميرسي كوربس' الأمريكية الإنجيلية والتي قضت 25 عامًا بالتنصير في جنوب السودان .

ويبدو أن ثمة تعاون وثيق بين نصارى الجنوب وبين المنظمات التنصيرية، فقد أرسل رئيس الأساقفة الإنجيليين بالسودان 'يوسف مارونا' إلى نظرائه في مناطق مختلفة بالعالم يحثهم فيها على التدخل في دارفور.

وأثناء اجتماع الأساقفة الإنجيليين بالمركز الكنسي التابع للأمم المتحدة بنيويورك في شهر إبريل الماضي، دعا رئيس الشماسين كل بروتستانتي إلى تقديم يد 'العون' لسكان دارفور والمشردين منها.

أما المنصِّر 'فرانكلين جراهام' الصديق الحميم لكل من [جورش بوش الأب والإبن] فكان من أوائل من أرسل منصريه إلى دارفور، حيث تعد مؤسسة 'فرانكلين جراهام ساماريتانس بيرس' من أوسع المنظمات التنصيرية نشاطا وإمكانيات في العالم، لا سيما بمستشفياتها المتنقلة.

ومن بين المنظمات العاملة في دارفور منظمة مساعدة الشعوب ومنظمة الكنائس العالمية ومنظمة الكنيسة الأسقفية الإنجيلية وأخذت تلك المنظمات وغيرها توزع الغذاء والدواء مع الأناجيل والكتب التي تتناول حياة المسيح -عليه السلام- كما تراها الكنيسة، وقد رسمت عليها الصور المزعومة للمسيح وأمه لكن هذه المرة لمسيح أسود وأم سوداء تحمله !!.

كما يشككون المسلمين الجياع والمرضى في صحة القرآن الكريم وأحاديث النبي –صلى الله عليه وسلم-.

فماذا عساه أن يفعل الجائع المريض إذا قيل له [عندنا أحدث المستشفيات المتنقلة المكيفة التي تقدم فيها أشهى الأطعمة، فإن أنت آمنت بالمسيح فهلم فادخل].



جارانج من ثمار التنصير الخبيثة



بعيدًا عن مبالغات المنصرين الذين يعمدون إلى تضخيم أعداد المتنصرين بغية الحصول على مبالغ أكبر ممن يدعمونهم، فإن الفتى الوثني جون جارانج كان نتاج الحملات التنصيرية حيث تنصر في صباه وتخلى عن دين قبيلته الدينكا، والتحق بالمدارس التنصيرية وأصبح بروتستانتيًا ثم عميلاً لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية [سي. آي. أيه] ليقود بعد ذلك أكبر حركات التمرد المؤدية إلى أطول الحروب في القارة الأفريقية؛ وليفرض أجندته بعد ذلك على حكومة الخرطوم بدعم من واشنطن وتل أبيب!!.



المنظمات الإسلامية... هل تقوى على المواجهة؟



إن تضخيم أحداث دارفور واستمرارها يروق لمن يروم الغزو العسكري أو العقائدي لأرض بها النيل انحدر، خاصة وأن الحكومة لم تفق بعد من أزمة الجنوب تقاسم فيها جارانج [الثروة والسلطة].

ووسط هذه المتاجرة الكنسية باحتياجات الفقراء المتعبين من إخواننا في دارفور، يتبادر سؤال ملح: أين العمل الخيري الإسلامي؟ وأين مواجهة المؤسسات الإسلامية؟

وللقارئ الكريم أن يعلم أن الولايات المتحدة الأمريكية قامت بتجميد أموال العديد من المنظمات الإسلامية التي كان من المنتظر أن تقوم على ثغور التنصير، وكان ذلك في إطار حربها على [الإرهاب].

وكانت تلك خطوة أمريكية خبيثة وخدمة جليلة للمنصرين، ومع ذلك فإن هناك بعض المحاولات من قوافل الإغاثة الإسلامية بدأت تتوافد على دارفور للمشاركة في إعانة سكان الإقليم وتثبيتهم، وقامت نقابة أطباء مصر بالتعاون مع لجنة الإغاثة باتحاد الأطباء العرب بتسيير قوافل إغاثية إلى هناك.

كما تقوم [ جمعية العون المباشر ] الإسلامية الكويتية بمهام إغاثية ودعوية في دارفور لمواجهة النشاط التنصيري الشرس، كما أرسلت بعض الدول العربية طائرات محملة بالمواد الغذائية والملابس والخيام .



إلا أننا إزاء هذا الخطر الذي تواجهه دارفور يجب أن ندرك مواطن الخلل لتداركها سريعا، فالطوائف النصرانية في الغالب تعمل مجتمعة أو بتنسيق بينها، وقد سلم الكاثوليك في البلدان المختلفة زمام التنصير إلى الفاتيكان، في الوقت الذي تعمل فيه الجمعيات الإسلامية متفرقة.

وإذا كان المنصرون يرتكزون على دعم مالي هائل، فالمسلمون العرب لا ينقصهم المال إذ تقدر ثرواتهم المستثمرة بالخارج بـ1200 مليار دولار، لو أخرجت زكاة هذه الأموال سيكون عندنا ما قيمته 30 مليار دولار سنويًا.

كما أن على الحكومة السودانية أن تهتم بالتنمية والتعليم في هذا الإقليم المهمل لعشرات السنين وألا يكون تناولها للأزمة أمنيَّا وآنيَّا، ولو تغلبت السودان على الفقر والجهل لضربت المنصرين في مقتل، وهي التي وصفت ذات يوم بأنها مزرعة العالم العربي,



نجاح شوشه

Nagah_eg@yahoo.com