هذا ما كتبه اخونا الرجل الممتاز
الدرس الأخير لفقيد الأمة وفقيد العلم في الحرم كان درس العبرات ..!!

كنت ممن استمع إلى درسه الأخير - قدس الله روحه - في ليلة الثلاثاء المتمم للثلاثين من رمضان لهذا العلم 1421هـ .

وكان لحضور هذا الدرس أهمية في نفسي لسببين ؛ أولهما :أنه قبل ذلك اليوم بيومين أخذ المرجفون يشيعون بالهاتف والانترنت خبرا كاذبا عن وفاة الشيخ - رحمه الله - فنكذّب الخبر بصفتنا قد استمعنا للدرس في الحرم .

والثاني : أننا نعلم حقيقة ما ألم بالشيخ من داء عضال ، أجمع الأطباء قديما وحديثا على أن من وصلت حالته إلى ما وصلت إليه حالة الشيخ فقد أصبحت أيامه معدودة إلا أن يشاء الله شيئا ... وكان صوت الشيخ - قدس الله روحه - يشي بما وصلت إليه حاله من تدهور في الصحة العامة ، لا سيما وأن مرض السرطان - أجارنا الله وإياكم - معروف عنه أنه يسبب آلاما رهيبة ومبرحة للمصاب به لا يمكن التغلب عليها إلا بجرعات كثيرة من دواء مخدر ( كالمورفين ) ولا أشك في أن الشيخ - قدس الله روحه - وكما سمعنا أيضا قد رفض تعاطي ذلك الدواء وآثر الاحتساب فلله الأمر من قبل ومن بعد ..

كنت أستشف من خلال صوت الشيخ مقدار ما يعانيه ولكنه كان مصرا على إلقاء درسه كالعادة حتى لو لم يستمر إلا ثلث ساعة أو أقل من ذلك ، ولما تشتد وطأة المرض عليه يغيب عن الحرم وقد افتقدناه حوالي أربعة أيام لشدة ما ألم به ، ثم عاد ونحن بين خوف ورجاء ..

كان درس ليلة الثلاثين درس عجيب مفرح ومحزن اختلطت فيه الفرحة بالخوف ، واختنقت فيه العبرات ..!!
كانت الفرحة بسماع صوت الشيخ المُتعب وتمثل الفرح في أنني تأكدت بكذب خبر وفاته المشاع يومها ..

بدأ الشيخ بالحديث بصوت أثقلته الآلام ، فتحدث عن العيد وأن الله سبحانه وتعالى جعل للمسلمين ثلاثة أعياد حق للمسلمين أن يفرحوا فيها بما أنعم الله عليهم من توفيق للأعمال الصالحة ، وفصّل فيها قليلا ،ثم انتقل إلى الإجابة على الأسئلة ..

وقد أطال الشيخ - قدس الله روحه - درسه تلك الليلة على غير ما اعتدناه في هذه السنة من اختصار حتى أن الدرس في الأيام السابقة لذلك اليوم لم يكد يستغرق العشرين دقيقة ، إلا أن الدرس الأخير أخذ أكثر من خمس وثلاثين دقيقة أجاب فيها على أسئلة كثيرة ..!!

ثم اقتربت النهاية ، وتسارعت الأنفاس ، واضطربت نبضات القلوب خوفا من أن هذا الدرس ربما يكون آخر العهد بشيخنا الحبيب الذي طالما ارتوينا من معينه ، واستنرنا بنور علمه وفقهه !!
لا أدري كيف كان حال من حولي حيث أخذت أتخيل أننا ربما لانلقى حبيبنا بعد عامنا هذا بل بعد درسنا هذا !!
لا أدري عم كانت آخر الفتاوى لانشغال الفكر بالتفكير في أن هذا ربما كان آخر العهد ، ولكن سرعان ما انتبهت على انتهاء الأسئلة وقال الشيخ بعدها قولة حفرت في الذاكرة !!
نعم لا زلت أذكر آخر كلمات نطق بها الشيخ فأوشك على البكاء وأبكى من استمع له ..!!

قال الشيخ بصوته المتعب : وحيث أن هذه الليلة هي ليلة الثلاثين من رمضان فسيكون هذا آخر درس لهذا العام !!

يا للهول آخر درس !!! لقد قال الشيخ : آخر درس ؟؟!! نعم قالها ، ولكن قال بعدها وخنقته العبرة : لهذا العام ، ولكن كان لسان الحال يقول : بل آخر درس إلى الأبد ..!!! إ

كان صوت لسان الحال أعلى من ذلك الصوت المثقل بالألام فكأن الشيخ لم يقل : لهذا العام ، وكأننا ما سمعناه قال إلا : آخر درس إلى الأبد !!!

إنا لله وإنا إليه راجعون ..اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيرا منها !!

نعم والله ..كان هذا ما شعرت به وشعر به من حضر ذلك الدرس الذي لا ينسى أبد الدهر ..!!
حتى لقد رأيت من نقل عن الشيخ - قدس الله روحه - قوله هذا ( آخر درس لهذا العام ) ، ولكن الناقل قد أسقط الكلمة الأخيرة وما قال إلا ( آخر درس ) !! ولا أشك في أنه لقي ما لقينا ونقل عن الفقيد ماقال لسان الحال لا ما قال هو ..!!

إنا لله وإنا إليه راجعون ..اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيرا منها !!

أعظم الله أجرنا وأجركم في فقيد الأمة وفقيد العلم والعلماء ..

على مثل ابن العثيمين فلتبك البواكي ..

لعمرك ما الزرية فقد مال **** ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد شيخ *** يموت لموته خلق كثير

رحم الله الشيخ العثيمين ، فلله كم من قلب ميت أحيته مواعظه ، وكم من غافل جاهل استنار بفتاواه ، وكم من طالب علم وفقه الله لينهل من رحيق علمه !!

كان طودا شامخا في العلم والزهد والتقوى ..!!
نذر حياته للعلم ونشر الدين الصحيح والدعوة إليه ، لقد تذكرنا السلف الصالح رحمهم الله بمطالعة سيرته وتأمل تراثه ..

منذ نعومة أظفارنا ونحن نرى الناس تتداول فتاواه -قدس الله روحه - فإن قيل : قال ابن عثيمين أو قال ابن باز قال الناس : هو القول ،رحمم الله الجميع ..

فقيد العلم في الناس الفقيد **** وحاضره المغيّب والشهيد
يموت المرء بينهم فينسى **** ويعقبه التنكر والجحود
ويُقبض عالم فترى تراثا **** تقلبه القرون وتستعيد
تراث نبوة وتراث علم **** وصاحبه هو الرجل الرشيد
هو الجبل الأشم يكون فيهم **** فتتزن الحياة فلا تميد
هو القبس الأتم يضيء فيهم **** فتنتظم المسيرة لا تحيد

إنا لله وإنا إليه راجعون ..اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيرا منها !!

إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا على فراقك يابن العثيمين لمحزونون ..
{ إنا لله وإنا إليه راجعون }..