مشهد مغرق في غرابته لزعيم القاعدة وهو يقف أمام المنصة الثالثة للمناظرة بين المتنافسين للانتخابات الرئاسية الأمريكية .. ربما هذا ما تراءى أمام عيني , وقد يتراءى أمام أعين كسيرة : بينما الأحداث تسير برتابتها في فيلم أمريكي ؛ فإذ بنجم 'الأكشن' يظهر في اللحظة الأخيرة لتطيش معه جميع الحسابات .. وقد يشاهده آخرون كحدث عابر لم يدل في ظهوره إلا على عبثية هذا التنظيم المتمرد.. وقد يخاله بعض فلاسفة الإعلام مشهد مرتب من أحد الحزبين الأمريكيين بالاتفاق مع بن لادن لإطاحة الآخر!!

ومهما يكن من أمر , فلم يكن توقع ظهور بن لادن في هذا التوقيت بالذات ضربا من ضروب التنجيم و'قراءة الطالع' , بل كان أمرا متوقعا جدا من كثيرين , وأزعم أنني توقعته ـ مع الآخرين ـ منذ أكثر من عام لأسباب عديدة : فبن لادن لم ير نفسه قد استكمل جميع 'مكتسباته' من العملية الصاعقة التي جرت منذ ثلاث سنوات ونيف , وبن لادن يرى أن بمقدوره أن يعبث بملف الانتخابات الأمريكية مثلما فعل في الانتخابات الإسبانية بعد تفجيرات مدريد , وبن لادن لا يعتبر أن تنظيمه مهما بلغت قدراته على لملمة جراحه واجترار ثوريته العسكرية قادر في هذه اللحظة التاريخية على تكرار عملية صواعق سبتمبر ؛ وأن عليه إذ ذاك أن ينفخ في رماد هذه العملية من جديد قبل أن يفكر أو يحاول تكرار مثيلتها , وبن لادن الذي يعتبر أيديولوجيا وفقهيا أن قتلى 11 سبتمبر من المدنيين الأمريكيين ليسوا في الحقيقة 'ضحايا' برأيه لأنهم بالفعل مشاركين بالعدوان بانتخابهم أباطرة الحرب وقياصرتها ولذا يحتاج لأن يذكرهم بمسؤوليتهم الشخصية عن خيارهم الانتخابي.. وبن لادن في الأخير إذا ما أراد أن يقول أنني قوي , ومقاتل عنيد فلن يجد كهذه فرصة للفخار وإغاظة عدوه اللدود.

في آخر خطوات المارثون الانتخابي الأمريكي أبى زعيم القاعدة إلا أن ينصب جريدة مسننة تدمي قدمي المرشحين الأبرزين ؛ الخاسر منهما والفائز .. واستدعى منهما تغيير أجندة اللحظات الأخيرة لهذه الانتخابات ليزايد كل منهم على الآخر في مسألة وضعها المرشحان في صدر اهتمام الناخب الأمريكي ؛ وهي مسألة أمن 'الأمة الأمريكية'.

ظهر بن لادن قبل أيام من الانتخابات الأمريكية , ولم يفته أنه بسبيله إلى معترك انتخابي وليس إلى معركة حربية , فلم يفته أن يخلع لأمة الحرب , وينزع عنه سلاحه , ويرتدي أبهى ثيابه العربية ويقف على منصة 'سياسية' ومن ورائه خلفية مبهمة , وخلا مشهدها من أي رمز عسكري , وانطلقت سهام مقاصده تترى من خلال ظهوره الأخير , فكان منها ما يلي :

بن لادن حي , وخلافا لكل الشائعات التي أوهم الإعلام الأمريكي البسطاء في العالم التي تفيد بأن الرجل سيظهره الرئيس الأمريكي في قفص أمام العالم ليزف لـ'الأمة الأمريكية' والعالم الخانع انتصاره , بدا وكأنه حشر الرئيس الأمريكي في زاوية الدفاع عن نفسه خلال الأيام القادمة , ولاشك أن إثارة مسألة التزوير في ولاية فلوريدا كان هدفها الخفي ـ علاوة على الظاهر ـ التأكيد بما لا يدع مجالا للشك أن التسجيل حديث جدا تلا مسألة البطاقات الانتخابية في فلوريدا ولم يسبقها.

الرئيس الأمريكي جورج بوش أخرق ومزور , هكذا أراد بن لادن لصورة بوش أن تظهر , فالرئيس الأمريكي تباطأ كثيرا في التحرك أثناء عمليات سبتمبر وانشغل عنها بالحديث عن العنزة [أو قصة الأرنب مثلما وردت في مصادر أمريكية] , والرئيس الأمريكي زور بطاقات انتخابية في فلوريدا مستفيدا من خبرات عربية في هذا المجال : هذا أحد أسهم بن لادن التي أطلقها في كلمته , والتي أراد من ورائها التأثير في الانتخابات الأمريكية.

التفريق والتفكيك , كانتا سمة كلمة بن لادن الظاهرة وعنوانها : فالتفريق بين من يجابه المسلمين ومن لا يجابههم بغض النظر عن عقيدته ؛ هو مرمى الكلمة عن مسألة الحرية عبر محاولة تحرير مصطلح 'الحرية' بما لا يخدم العدوان الأمريكي على الحوض الإسلامي , فالسويد والولايات المتحدة ليسا صنوان مع كونهما يرفعان لواء الحرية , والحرية إنما تتجلى في السعي لرفع الظلم والعدوان , وهو ما حدا بالرجل إلى مدح منفذي أحداث سبتمبر.

والتفريق كذلك بدا من ثنايا الكلمات في نظرته إلى الحكام العرب , فرغم معاداته للجميع إلا أنه لم يضع كل الحكام العرب في سلة واحدة عند الحديث عن أسلوب حكمهم ,حيث قال ' يكثر بينهم الذين يتصفون بالكبر والغطرسة والطمع وأخذ المال بغير حق'.

والتفكيك : لم يبد بن لادن ذاهلا عما يمور ببطء في الولايات الأمريكية المختلفة التي تتباين في الثروة والسكان والإثنيات والأجناس ؛ من رغبات الانفصال الرامية إلى التحرر من نفقات التسلح والعلاقات الخارجية الباهظة .. , فراح يسعى لسكب زيت الحديث عن 'فصل معاملة القاعدة لكل ولاية على حدة تبعا لموقفها من العدوان على المسلمين' على نار التفكيك الضعيفة.

ترك الباب مشرعاً أمام أي من الجهات التي يعاديها بن لادن للتراجع كان أيضا أحد عناوين خطاب بن لادن , فنظرية عداء الجميع أبدى بن لادن عنها تراجعا تكتيكيا لمحاولة زرع الشقاق بين أعدائه.

وقد يكون بنظر بن لادن هذه الرسائل كلها إيجابية , غير أن آخرين قد يقفون ناقدين أو على الأقل عاجزين عن فهم رسالة بن لادن في ضوء ثوابت أخرى ربما قررها بن لادن نفسه من قبل :

لماذا خرج بن لادن ووجه انتقاداً عنيفاً لجورج بوش في هذا التوقيت بالذات , علاوة على الظهور ذاته والذي يمكن تجييره لمصلحة خصم بوش جون كيري حيث يلح الأخير في انتقاده لما دعاه بتقاعس بوش عن النيل من بن لادن في تورا بورا أثناء المعارك الطاحنة التي جرت فيها قبل أكثر من عامين , والذي جاء هذا الخطاب ليزيد من أوار المزاعم التي يروج لها كيري بشأن هذه المعركة؟ هل يريد العمل لمصلحة كيري من حيث كونه قد يراه وحزبه أقل ضرراً على المسلمين برغم جذوره اليهودية ؟ الأصوات علت من قبل قائلة ومن خلال بيانات تنظيم القاعدة عينها تقول إن بقاء بوش باندفاعيته الإمبراطورية أجدى للقاعدة من رحيله , فلماذا انتقد بوش في هذه اللحظة الفارقة ؟ هل أراد بن لادن ـ بالعكس ـ أن يزكي بوش عبر انتقاده [لاعتبار نقد العدو تزكية عند أصدقائه] ؟ وهل يفهم بن لادن طبيعة الناخب الأمريكي إذن لهذه الدرجة ؟ وهل اختط بن لادن لنفسه أسلوبا يرمي إلى ضرورة إطاحة اليمين في أي من الدول المحاربة مثلما جرى في إسبانيا بإطاحة أثنار بتفجيرات مدريد ؟ وهل هذه سياسية مضطردة في صحتها على الدوام ؟

طبيعي أن يفكر بن لادن في النكاية من جورج بوش الذي فعل وفعل في العراق وأفغانستان وفلسطين والفلبين وغيرها , وإن من أعظم النكايات أن يظهر بن لادن نفسه متحديا الجبروت الأمريكي في هذه اللحظة الفارقة , وطبيعي أن يكون للرجل رغبة في إبراز الزعماء العرب بمظهر يريده هو , وأن ينقل للشعوب العربية رسالة بأنه 'الوحيد من بين الزعماء العرب' الذي بإمكانه أن يغير في نتائج الانتخابات الأمريكية !! ولكن هل تكفي هذه الرغبات لتكون محركاً رئيساً لهذه 'الضربة الجديدة' ؟ ربما , ولكنني أستبعد أن يتوافر للرجل في كهوف أفغانستان أو أبنية باكستان الطينية مراكز يمكنها أن ترصد بشكل دقيق مدى تأثير هذه الكلمات على مجرى الانتخابات في الولايات المتحدة الأمريكية التي تخضع لعوامل كثيرة أهمها الآن مزاج الناخب الأمريكي المتقلب , ومن هنا يمكن التساؤل عن كيفية رصد ذلك بشكل دقيق يجعل من 'الفعل اللادني' فعلا محسوب العواقب يقينا لا ظنا . وإلا فتحليلات كثير من العلمانيين المتطرفين المقللين من جدوى الخطاب ربما أفادت الخطاب من هذه الجهة من حيث لا تدري أكثر مما أضرت به إذ حرمته من التأثير إلا النكاية المجردة , وهي حين ذاك لها قيمتها بكل تأكيد ؛ لا من الجانب العاطفي , ولكن من جانب التأثير المستقبلي على السياسة الأمريكية التي ستأخذ بالاعتبار فشل الإدارة السابقة في حل 'معضلة بن لادن' المزمنة..

بدا من حديث بن لادن عن 'تبسيط' فكرة أحداث 11 سبتمبر ليثير تكهنات وتخوفات بشأن كيفية التحضير السياسي لعمليات بهذا الحجم , لا أحد يستطيع هنا أن يجزم بقلة أو وفرة اكتراث منفذي العملية بالعواقب التي حاقت بالمسلمين أو الولايات المتحدة الأمريكية , فحديث بن لادن لا يحمل أي دلالة بهذا الشأن إلا أنه يثير تكهنات عن أسلوب صناعة القرار داخل تنظيم القاعدة وعن مغزى هذه العملية , فزعيم القاعدة وضع لهذه الهجمات عنوانا رسمته هذه الكلمات 'وفي تلك اللحظات العصيبة جاشت في نفسي معان كثيرة يصعب وصفها ولكنها أنتجت شعورا عارما برفض الظلم وولدت تصميما قويا على معاقبة الظالمين. وبينما أنا أنظر إلى تلك الأبراج المدمرة في لبنان, انقدح في ذهني أن نعاقب الظالم بالمثل, وأن ندمر أبراجا في أميركا لتذوق بعض ما ذقناه, ولترتدع عن قتل أطفالنا ونسائنا.' إلا أنه في المقابل بوسع أنصاره أن يقولوا أن تحت هذا العنوان دراسات وأبحاث كثيرة لم يشأ بن لادن الحديث عنها , تماما مثلما لم يرد أن يكشف عن صلته المباشرة عن هذه العمليات بهذه الطريقة إلا بعد ثلاث سنوات ونيف , وبوسعهم أيضا أن يقولوا بأن خطاب بن لادن كما كثيرا غيره من خطاباته السابقة لم يبث كاملا عبر الجزيرة , وبالتالي فقد خلا من شروح توضح عدم اقتصار الفعل عن مجرد الفكرة.



بن لادن تحدث , واستدعت كلماته جيشا من المتحدثين والمحللين والخبراء , ولعل ذلك معيار واضح لقيمة الرجل وتأثيره سواء اختلفت مع الرجل أو اتفقت..