لم تكن صور الآلاف من معتقلي سجن أبي غريب العراقي وهي تعود بنا إلى حقبة محاكم التفتيش اللعينة , ولا مشاهد الإجرام في سجن جوانتنامو حين يوضع السجين في أقفاص الحيوانات, كفيلة بأن تغير من رغبة الناخب الأمريكي في اختيار رئيسه.

ولم يكن افتقار 'العدالة الأمريكية' إلى أبسط درجات التأييد لوجود مبررات أكيدة بغزو العراق قمينة بأن تحرف 'الأمة الأمريكية' عن مسارها الإمبراطوري.

لا الوحشية التي أطل وجهها القمئ في تمزيق أشلاء بنيات العراق ونسائه وشيوخه , وتفتيت بيوت الفقراء الطينية في أفغانستان .. لا نهب ثروة العراق النفطية وسلب آثاره وتشويه تراثه , وتأمين زراعة الأفيون وخط إنتاجه وطريقه التصديري في أفغانستان ..

ولا التضحية بآلاف المرتزقة من راغبي الجنسية الأمريكية والمواطنين الملونين في غياهب الحرب العراقية ومجاهلها , كانت كلها كفيلة بأن يدير الأمريكيون ظهورهم للرئيس الأمريكي جورج بوش ويستبدلوه بآخر أرجى منه في قلة الطغيان !!

مخطئ من ظن أن 'الأمة الأمريكية الحرة' كانت منزعجة من عدم وجود 'مبرر أخلاقي' لغزو العراق , فأكثر من 80 % من همجي الحضارة الجديدة/العسكريين الأمريكيين في العراق قد أعلنوا تأييدهم للرئيس الأمريكي جورج بوش ـ وفقا لاستطلاع وزارة 'الدفاع' الأمريكية [البنتاجون] في العراق ـ برغم أنهم خرجوا من ديارهم لا يألون على شيء ولا يحملون مبدأ سوى مبدأ القرصنة وسلب الثروات والجوس خلال الديار العربية المسلمة. ثم تبعتهم الملايين خفت من منازلها وأعمالها لانتخاب 'بطل الحرب الأمريكي' جورج بوش !!

ومخطئ كذلك من ظن أن 'الأمة الأمريكية الحرة' قد راجعت نفسها إذ أبغضها العالم بكل تنوعاته الإثنية والدينية والثقافية .. سرعان ما انتبهت إلى أنها أجرمت فحصدت جرائمها في نيويورك وواشنطن ثم نكست على رأسها 'لقد علمتم , ما هؤلاء يحبون الحرية' !!

هكذا انحازت أمريكا شعبا وقادة ووجهاء ومثقفين إلى الطغيان ودقت طبول الحرب .. وهكذا استتب الأمر لجميع اليمينيين الصهيومسيحيين في العالم .. رجح رهان شارون وبلير وبيرلسكوني وبوتين , وانسكب الزيت مجدداً على نار الحرب الصليبية التي أشعلها جورج بوش, وتغاضت أغلبية الأمريكيين عن مصائب بوش الاقتصادية, حين يراجعون إحصاءات اقتصادهم خلال تلك السنوات الأربع التي تشي في مجملها بكارثية العهد الجمهوري الحالي ؛ إذ أحال جورج بوش فائض الموازنة العامة التراكمي في عهد بيل كلينتون [463 مليار دولار تقريبا] إلى عجز [بلغ 1200 مليار دولار] , ورفع معدل البطالة من 4,4 % في عهد كلينتون إلى 5,5 % في عهد جورج دبليو بوش. ولم يأبه الأمريكيون لخفة يدي إدارة بوش التي تورطت في منح شركة هاليبرتون النفطية هبة عراقية وأخرى أمريكية ضخمة [بالأمر المباشر أولا] بدون مراعاة القواعد الاقتصادية الأمريكية القاضية بفتح الباب أمام التنافس التجاري الشريف عبر إعلان مناقصات عامة لتزويد الجيش الأمريكي بحاجياته النفطية [المسروقة من العراق !!] , وتورطت كذلك في فضائح عدة شركات عملاقة أفلس بعضها مثل إنرون [الممولة الأولى في السابق للحزب الجمهوري] ويمضي الآخر منها متعثراً ..

ولم يكترث الأمريكيون إن عانى مواطنهم البسيط بسبب ارتفاع أسعار النفط فيما يضخ فائض أرباح ارتفاع النفط في جيوب منظومة آل بوش ـ تشيني ـ كونداليزا رايس..

كل ذلك لا يهم كثيرا , إنما المهم أن يبقى راعي البقر راعيها وأن تتواصل مهمته 'الحميدة' في حربه ضد الإرهاب وسلب أموال الضعفاء.

لم تنشطر أصوات الأمريكيين لأن إدارة بوش قد سرقت العراق , وإنما لأنها تعثرت في الطريق فأمسكت شرطة المقاومة العراقية بتلابيبها وزجتها في أتون حرب ضروس لا يعلم إلا الله عما تنجلي , وهم لم يعد بمقدورهم من خيار إلا الهروب إلى الأمام باستمرار في الرهان وإلا خسروا كل شيء : المهابة والأيديولوجية المريضة والمال ..

كذلك , فقد توحدت رغبة الإنجيليين والبروتستانت ـ عموما ـ والصهاينة , مع رغبة تنظيم القاعدة في أن تظل جذوة الصراع مستعرة بصورتها الواضحة الجلية من دون مواربة ولا رتوش..

اليمينيون رأوا في جورج بوش فرسهم الرابح ضد ما يسمونه الإرهاب وحلمهم الأرجواني بإقامة 'مملكة الرب/ إسرائيل الكبرى' ما بين النيل والفرات برغم كل صعوبات الطريق ولأواء الحرب وصعوبات التنفيذ.

وتنظيم القاعدة الذي دخل إلى المعترك الانتخابي مبكرا قبل ثلاث سنوات واختتم معركته بخطاب بن لادن الأخير رأى ـ بحسب بياناته المعلنة أكثر من مرة ـ أن رئيسا يحمل عداءً سافراً خير من آخر يجيد الديبلوماسية الأفعوانية [من غير المسلّم به أن يكون بن لادن عمد إلى التدخل لصالح بوش حقيقة عبر نقده أمام شعبه , فتلك نقطة يسترها رحم الغيب , غير أنها رغبات أذاعتها القاعدة في بيانات غير موثوقة].

وقد تعانقت الرغبتان , فكان جورج بوش في سدة الحكم من جديد , وتماهت معها 'الكرامة الأمريكية' , ففريق بوش لابد وأن ينجح , وأن يواصل مهمته تماما كما يقول المثل الإنجليزي 'لا تبدل جوادك أثناء الحرب' .. والحرب الصليبية نعم دائرة , فلم النزوح إلى تبديل الجواد؟!

إن التسلسل الطبيعي كان يقضي بأن يأتي في تلك اللحظة التاريخية رئيس ديمقراطي ليلملم جراح الولايات المتحدة ويضع بعض المساحيق على وجه أمريكا الدميم , غير أن الرئيس اليميني المتطرف لم ينجز بعد الدور المنوط به , فقد تعثرت قدماه غير مرة , وكبا في كل من أفغانستان والعراق , وإذ أعطى إشارة خضراء للبلدوزر الصهيوني/شارون بأن يسكت صوت الإسلام في فلسطين ؛ فأحالها حماة الثغور في جباليا وجنين وبيت حانون ورفح حمراء بلون الدماء الصهيونية النجسة. فليس من المنطقي أن يتبدل القائد ؛ والنفير قد ملأ أرجاء الدنيا ؛ ولمّا ترجع البيادق ظافرة من بلاد الإسلام.

وكذا .. فإن أصحاب النفوذ في الولايات المتحدة الأمريكية من حراس الهيكل وبارونات السلاح وأباطرة النفط و'جوبلزات' الإعلام لم يروا داعيًا في أن يسيروا ضد التاريخ ؛ خلف رئيس ديمقراطي يكمل حربا بذات الحدة التي بدأت بها!!

ومن هنا .. من أرض 'الشرق الأوسط الكبير' [الوطن العربي الكبير سابقا] نرى بأن الشعب الأمريكي بكامل حريته قد دق طبول الحرب من جديد ..

تهانينا للرئيس الطاغية .. ولا تنزعج كيري بإمكانك أن تتراجع بعد اعترافك بالهزيمة .. لا غرو فلتطلق صيحة هادرة : 'مهلاً مهلاً .. أوهايو ليست النهاية .. ثمة جديد .. ولاياتنا العربية لم تصوت بعد'.