في عام 1906 ذهب جنود الاحتلال البريطاني إلى قرية في مصر تسمى دنشواي من أجل صيد الحمام، أصابوا بعض الأهالي برصاصهم، طاردهم الأهالي للقصاص، فر الجنود وأصيب أحدهم بضربة شمس 'مصرية' لم يعتد على حرّها، فما كانت من بريطانيا إلا أن عقدت محاكمة لأهالي القرية الذين 'قتلوا' المحتل، نصبت اللجنة بقاض مصري، اسمه بطرس غالي ـ والد بطرس بطرس غالي السكرتير العام الأسبق للأمم المتحدة ـ القاضي كان ممثلاً عن 'وزارة العدل المصرية' التي كان قد عينها الاحتلال البريطاني، ولكن المصري أعدم أبناء بلده، 4 منهم قتلاً بالرصاص، وقام بجلد البقية على مرأى من أهلهم.
كانت تلك الحادثة سببًا في تأجج المقاومة الوطنية المصرية، وطرد اللورد كرومر الذي أمر بعقد تلك المحاكمة بعد عام من الحادثة، بعد أن قضى في مصر 23 سنة، وبدأت نهاية الاحتلال البريطاني لمصر.
وما أشبه الليلة بالبارحة، اليوم جاء قضاة عراقيون ليحاكموا أبناء البلاد، وجوه مزيفة وخلفيات مريبة، روابط صهيونية وتعيين أمريكي، في ظل احتلال حتى مخالف 'للشرعية الدولية'، تعيين لأعضاء المحكمة ممن لا يملك لمن لا يستحق. ولنستعرض الوجوه التي تقف في كواليس تلك 'المحاكمة':
رائد جوحي:
جلس القاضي الشاب ليحاكم صدام حسين، اسم القاضي رائد جوحي، درس القانون في جامعة بغداد، كان هو من أعد مذكرة اتهام مقتدى الصدر في قتل رجل الدين الشيعي عبد المجيد الخوئي عندما كان يعمل كقاض للتحقيق في محكمة النجف، ولكن عندما نبحث عن من الذي عينه في ذلك المنصب سنجد أنها سيدة أمريكية كانت تعمل مستشارة قانونية لوزارة العدل العراقية، اسمها راشيل روو [من اسمها تبدو أنها يهودية]، كانت تعمل في مكتب الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر، وكانت مشرفة على محكمة النجف.
سالم الشلبي:
أما رئيس المحكمة فهو سالم الشلبي، والذي يبلغ من العمر 40 عامًا، وهو ابن أخي أحمد الشلبي رئيس المؤتمر الوطني العراقي، أكمل تدريبه القانوني في الولايات المتحدة، وكان يعرف هناك باسم 'سام شلبي'، ثم أنشأ بعد ذلك مكتبًا أسماه المجموعة القانونية الدولية العراقية IILG في يوليو بالاشتراك مع رجل اسمه مارك زيل، وهو محامي صهيوني يميني متعصب ولديه مكتب في القدس وواشنطن، وكان في الماضي يدير نشاطات قانونية مع دوجلاس فيث من صقور البنتاجون والمسئول عما يسمى إعادة إعمار العراق.
وبعيدًا عن علاقته بعمه، فإن سام شلبي له اتصالات عديدة خاصة به، فقد كان في بعض الأحيان يعمل كمتحدث باسم المؤتمر الوطني العراقي، كما شارك في تأليف وثيقة 'التحول إلى الديموقراطية' وهي من أهم الوثائق التي كتبتها المعارضة العراقية في المنفى للتخطيط لفترة عراق ما بعد صدام, وقبل الغزو كان في شمال العراق في أعمال سرية ثم بعد ذلك أجرى صلات في بعض دوائر الشئون القانونية العراقية نيابة عن المؤتمر الوطني العراقي مع فريق البنتاجون في الكويت، كما كان عضوًا بشكل غير مباشر في لجنتين تقدمان الاستشارات للحكومة العراقية الجديدة في مجال التمويل والتجارة والاستثمار.
وقد أوردت الجارديان البريطانية أن سالم الشلبي كان 'حتى وقت قصير الرمز الخارجي في عملية الخداع السياسي حول العراق، والمعلومات المتوفرة عنه على موقع مكتبه للمحاماة المسمى IILG هي أنه قد عمل في السابق في مؤسسة كليفورد شانس، وهي مؤسسة محاماة بريطانية، وقد أنكرت مؤسسة كليفورد شانس أنه 'ترك المؤسسة، وقالوا أنه لا يزال يعمل لديهم، ولكنه في أجازة منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، كما اشترك سالم الشلبي في مؤتمر من أجل 'تحويل العراق إلى الديموقراطية' وضغط من أجل وجود لجنة ما بعد الحرب على نموذج جنوب إفريقيا لمحاكمة النظام السابق وإحداث 'مصالحة وطنية'، وبعد ذلك وأثناء الغزو أراد البنتاجون أن يعينه كمستشار لوزارة العدل العراقية في مشروع لجاي جاردنر للسيطرة على إدارة العراق.
من هو مارك زيل شريك 'سام'؟
حتى وقت قريب كان مارك زيل 'الإسرائيلي' هو صاحب تسجيل موقع المجموعة القانونية على الإنترنت، ثم تم نقل التسجيل إلى سام شلبي في 25 سبتمبر الماضي، وهو اليوم الذي أعقب كشف جريدة الجارديان عن تسجيل الموقع باسم مارك زيل، وذلك في مقال للكاتب برايان ويتكر، والذي كان أول من كشف عن تلك الصلات المشبوهة.
وطبقًا للجارديان فلم تتغير محتويات الموقع منذ ذلك الحين، وأظهر الموقع المحتويات التي أضافها أعضاء مكتب مارك زيل في القدس.
ومارك زيل مواطن يهودي ولد في الولايات المتحدة ويبلغ من العمر 50 عامًا، ثم أصبح مهتمًا بالصهيونية في منتصف الثمانينيات وقام بعدة رحلات إلى فلسطين المحتلة ، إحداها كانت برعاية حركة 'جوش أمونيم' [تعني تكتل المؤمنين بالعبرية]، والتي تزعم أن الأراضي التي احتلتها 'إسرائيل' في عام 1967 كانت هبة من الله إلى 'إسرائيل'، وهذه العصابة هي التي خرجت صقور الإرهاب الصهيوني مثل الهالك مائير كاهانا داعية الترانسفير الشهير، والهالك جولدشتاين منفذ مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل.
في عام 1988 وفي بداية الانتفاضة الفلسطينية الأولى انتقل مارك زيل وعائلته إلى العيش في فلسطين في مستوطنة آلون شيفوت اليهودية في الضفة الغربية، وحصل على الجنسية 'الإسرائيلية'.
وكانت المستوطنة محاطة بالأسلاك الشائكة وكثيرًا ما تعرضت لهجمات من قبل المقاومة الفلسطينية، ولكن رغم ذلك صرح زيل أن 'المستوطنة هي المكان المثالي لأطفاله'، مضيفًا في تصريحات إلى مجلة هوم ميكر [تصنيع المنازل] اليهودية: 'إنها وكأنها بلدة صغيرة في ولاية إيوا الأمريكية'.
وفي انتخابات عام 1996 'الإسرائيلية' قام مارك زيل بشن حملة انتخابية لصالح اليميني المتطرف بنيامين نتنياهو، كما كان زيل عضوًا في اللجنة المركزية لحزب الليكود وفي قطاع السياسيات للحزب أيضًا، ومنذ ذلك الحين أصبح المتحدث الدائم باسم المستوطنين.
وفي دورية قانونية نشرت حديثًا يحررها أحد زملاء زيل، صرح مارك زيل أن حق العودة للاجئين الفلسطينيين 'ليس فقط بلا أساس من الناحية القانونية، ولكنه أيضًا لا أساس له من الناحية التاريخية لأرض إسرائيل'.
وفي مكتب زيل في القدس المسمى 'زيل جولدبريج وشركاه' يزعم أن المكتب 'هو من أسرع المؤسسات القانونية نموًا في إسرائيل'، ومن أهم نشاطات المكتب هو مساعدة الشركات الإسرائيلية لعقد صفقات في الخارج'.
وذكرت صحيفة الحياة اللندنية في عدد 2 يوليو 2004 : 'بعد تأسيس شركة بغداد سارع زيل إلى تأسيس فرع لشركة 'جولدبرغ وشركاه' الصهيونية في الولايات المتحدة، وهذه الشركة تعمل في مشاريع إعادة أعمار العراق، وقد نجحت في تسليم شركات أمريكية عقود بمئات ملايين من الدولارات'.
عمل المجموعة العراقية القانونية:
يقول سام شلبي أن دور مارك زيل في المجموعة العراقية القانونية هو العثور على الشركات المهتمة بعقد صفقات في العراق، وذلك المكتب والذي له روابط وثيقة بالبنتاجون والحكومة العراقية الجديدة يعد أول مشروع 'إسرائيلي'/عراقي معروف منذ سقوط صدام حسين.
وقد تم إنشاء المجموعة القانونية الدولية العراقية IILG في يوليو 2003 'لإمداد المشاريع الأجنبية بمعلومات والأدوات التي تحتاجها لدخول السوق العراقية الواعدة والنجاح فيها' طبقًا لموقع المجموعة، وتضيف المجموعة على موقعها على الإنترنت: 'إن أعداد عملائنا من أكبر أعداد المؤسسات والشركات في العالم'.
والمجموعة التي قالت أنها وظفت أربعة محامين عراقيين وثلاثة 'محامين أعمال دوليين'، تعمل مؤقتًا من غرف فندق فلسطين في بغداد، وتقول المجموعة أنها تعمل كمستشار دولي لغرفة التجارة العراقية في بغداد، وللاتحاد العراقي للصناعات.
وأحمد الشلبي ـ عم سالم الشلبي ـ ومارك زيل لديهما صلات مع دوجلاس فيث في البنتاجون، وأحمد الشلبي كان مصرفيًا سابقًا في الأردن، وحكم عليه بالسجن 22 سنة في محكمة أردنية بسبب صلاته بفضيحة تتعلق باختلاس مبلغ 200 مليون دولار في الثمانينيات من بنك البتراء الأردني، كما عمل أحمد الشلبي عن قرب مع صقور البنتاجون في الإعداد لغزو العراق، وقد أبدى فيث انحيازًا تامًا لليمين 'الإسرائيلي' في دوره في البنتاجون وفي السابق عندما كان شريكًا لمارك زيل في إحدى المؤسسات القانونية في واشنطن.
وفيث مثله مثل مارك زيل، زعم أن المستوطنين اليهود في الأراضي الفلسطينية المحتلة يتمتعون بشرعية كما قاما بالترويج إلى فكرة تصدير النفط العراقي إلى 'إسرائيل' عن طريق خط أنابيب.
وفي عام 1996 كان فيث أحد الذين كتبوا الوثيقة التي أعدت لحرب العراق والإطاحة بصدام حسين كأول خطوة باتجاه إعادة تشكيل 'المناخ الاستراتيجي الإسرائيلي، ولكن المثير أن مارك زيل شاركه في كتابة هذه الوثيقة كما هو مكتوب أما اسم دوجلاس فيث في قائمة من أعدوا الوثيقة، فقد كان مكتوبًا إلى جوار اسم فيث: Douglas Feith, Feith and Zell Associates'.
يقول ديف ليندورف على موقع 'كاونتر بانش' في 27 أبريل 2004: 'إن المشكلة المتعلقة بسالم الشلبي كرئيس للمحكمة ليست فقط أن عمه هو أحمد الشلبي، ولكن سالم نفسه لديه علاقات وثيقة ومباشرة بإدارة الرئيس بوش، وشريكه التجاري هو 'الإسرائيلي' اليهودي مارك زيل ويديران معًا مكتبًا للمحاماة بالشراكة تحت رعاية دونالد رامسفيلد ودوجلاس فيث من المحافظين الجدد ومن صقور البنتاجون الذين خططوا لحرب العراق، ومكتبه يتابع المشاكل القانونية التي تتعلق ببرنامج إعادة بناء العراق'.
ويضيف ليندورف أن المدهش أن وسائل الإعلام الأمريكية في حواراتها مع سالم الشلبي لم تتطرق إلى نزاهة تلك المحاكمة، ففي حوار مع سي إن إن في ديسمبر الماضي وصفت الشبكة سالم بأنه 'مهندس' المحاكمات القادمة، 'ولكنها لم تسأله سؤالاً واحدًا بشأن شرعية عمله، وكونه يلعب دورًا هامًا في تلك المحاكمات، كما لم تسأله الواشنطن بوست والتي أجرت معه حوارًا في الوقت ذاته عن ذلك، وعندما بحثت في كبريات وسائل الإعلام الأمريكية لم أجد موقعًا واحدًا سأله مباشرة عن دوره كرئيس لتلك المحاكمات، حتى الراديو القومي العام [الأمريكي] فقد سأله عن المحاكمات بدون أن يسأله السؤال الصحفي الهام بشأن تضارب المصالح في تلك القضية، أو عن أولوياته كرئيس لتلك المحاكمة'.
ويضيف أنه يبدو أن محاكمة صدام لن تخضع لرقابة وتدقيق كما مرت مسألة تعيين سالم الشلبي في وسائل الإعلام الأمريكية بدون تدقيق، ومن المؤكد أن أي محكمة سوف يرأسها سالم الشلبي لن تصمد أمام البحث والتدقيق إذا ما قام بذلك أحد من خارج الولايات المتحدة، وبخاصة في العالم الإسلامي، ويختتم مقاله بأنه 'يراهن' بأن تلك المحاكمة سوف تكون محاكمة غير عادلة.
وعلاقات عمه أحمد الشلبي بالمخابرات الأمريكية وبوزارة الدفاع لا تخفى على أحد، وكان هو من قدم المعلومات 'الاستخباراتية' المضللة التي قادت إلى الحرب على العراق، وذلك بمزاعم حيازة صدام على أسلحة نووية وقدرته على شن هجوم نووي في غضون ساعات، وهو ما استشهد به كولن باول في خطبته أمام مجلس الأمن قبيل الحرب مباشرة، وذلك قبل أن يحدث الفصام النكد ما بين أحمد الشلبي والإدارة الأمريكية التي أرادت أن تجعله كبش الفداء، وألقت عليه بمسئولية 'تضليل' الإدارة الأمريكية، وعدم إعطائه معلومات صحيحة عن حجم المقاومة العراقية الباسلة في العراق.