
قبل سنوات قليلة كان السؤال الشائع هو: هل نقرأ أكثر أم نشاهد أكثر؟ اليوم صار السؤال أدق: هل أصبح “المحتوى البصري” هو اللغة الافتراضية للإنترنت، أم أن “المحتوى المكتوب” ما زال يحتفظ بمكانه الحقيقي لكنه تغيّر في الشكل والدور؟
الإجابة الأقرب للواقع ليست نعم أو لا، بل: المحتوى البصري طغى على “زمن الانتباه اليومي” لدى الجمهور، لكنه لم يلغِ المحتوى المكتوب، وإنما أجبره على أن يصبح أكثر ذكاءً، وأكثر اختصارًا، وأكثر قابلية للعثور عليه عبر البحث، وأكثر قدرة على بناء الثقة والمعنى.
لماذا يبدو أن المحتوى البصري هو المسيطر؟
هناك ثلاثة أسباب رئيسية تفسّر الإحساس العام بأن الفيديو والصور ابتلعوا المشهد.
أولًا: البنية نفسها التي يعمل بها الإنترنت اليوم تدفع نحو الفيديو. تقارير تحليل حركة الإنترنت تُظهر أن “الفيديو” هو أكبر فئة من حيث حجم بيانات التحميل في كل المناطق تقريبًا، وبنسب تتراوح تقريبًا بين 41% و48% من حركة التنزيل بحسب المناطق. هذه ليست “شعبية” فقط، بل هي وزن فعلي داخل الشبكة ينعكس على المنصات والإعلانات والاستثمارات.
ثانيًا: تغيّر عادات استهلاك الأخبار والمعرفة. في ملخص تقرير الأخبار الرقمية لعام 2025 لوحظ أن استهلاك “الفيديو الاجتماعي” ارتفع عالميًا من 52% في 2020 إلى 65% في 2025، كما ارتفع استهلاك “أي نوع من الفيديو” من 67% إلى 75% خلال الفترة نفسها. هذا يعني أن الفيديو لم يعد ترفًا أو إضافة، بل صار قناة أساسية للوصول للمعلومة، خصوصًا لدى الأجيال الأصغر.
ثالثًا: حتى عندما يكون الهدف “فهم منتج أو خدمة”، كثير من الناس يفضّلون الفيديو على النص. في إحصاءات 2025 الخاصة بتسويق الفيديو، عندما سُئل الجمهور عن الطريقة المفضلة لتعلّم شيء عن منتج أو خدمة، اختار 78% مشاهدة فيديو قصير، بينما فضّل 9% فقط قراءة مقال نصي. هذه فجوة تفسّر لماذا تتجه العلامات التجارية والمؤثرون إلى الفيديو القصير كمدخل سريع للإقناع والفهم.

لكن… هل هذا يعني أن المحتوى المكتوب انتهى؟
هنا النقطة التي يقع فيها كثيرون: الخلط بين “الاستهلاك السريع” و”القيمة العميقة”. الفيديو غالبًا يفوز في معركة الثواني الأولى، لكن المحتوى المكتوب لا يزال يفوز في ثلاث معارك لا يمكن الاستغناء عنها: البحث، والعمق، والتوثيق.
لنبدأ بسلوك القراءة نفسه. أبحاث تجربة المستخدم تشير إلى أن أغلب الناس لا يقرأون صفحات الويب كلمة كلمة، بل يقومون بالمسح السريع بحثًا عن ما يهمهم. وفي دراسة شهيرة حول “كم يقرأ المستخدمون؟” تبيّن أن المستخدم في الزيارة الواحدة يقرأ في المتوسط حدًا أقصى يقارب 28% من كلمات الصفحة، و20% هو الأكثر شيوعًا. هذه الأرقام قد تبدو ضد الكتابة، لكنها في الحقيقة تخبرك بشيء مهم: المشكلة ليست في النص، بل في طريقة كتابة النص. عندما تُكتب المقالات وكأنها صفحات كتب، يخسر النص. وعندما يُكتب النص ليتناسب مع المسح السريع، يكسب.
والأهم: في تقرير الأخبار الرقمية 2025 نفسه، ورغم صعود الفيديو، ما زال “النص” هو الشكل الأكثر تفضيلًا لاستهلاك الأخبار عالميًا بنسبة تقارب 55%، مقابل 31% للفيديو و15% للصوت. المعنى هنا واضح: الناس قد ينجذبون للفيديو في شبكات التواصل، لكنهم عندما يريدون متابعة الأخبار والفهم بهدوء يظل النص خيارًا أولًا لدى شريحة واسعة.
إذًا أين طغى المحتوى البصري فعلًا؟
طغى في “الواجهة” أكثر مما طغى في “الأساس”.
المحتوى البصري ممتاز لإثارة الفضول، وشرح الفكرة بسرعة، ونقل المشاعر، وخلق علاقة فورية مع الجمهور. لذلك تفضّله المنصات التي تقيس النجاح بعدد الثواني والمشاهدات والتمريرات. لكن المحتوى المكتوب ممتاز لبناء المكتبة الدائمة: مقال يُبحث عنه بعد شهر وسنة، دليل يُحفظ، مراجعة يُرجع إليها القارئ، إجابة تظهر في نتائج البحث، وصف واضح يمكن نسخه ومشاركته وتوثيقه.
بمعنى آخر: الفيديو يصنع “لحظة”، والنص يصنع “مرجعًا”.
ما الذي تغيّر في الكتابة كي تبقى قوية في عصر الفيديو؟
الكتابة التي تنجح اليوم ليست تلك التي تكتب كثيرًا، بل التي تكتب بذكاء. القارئ يمسح بعينه، ويبحث عن دليل، ويريد إجابة مباشرة، ثم يقرر هل يستمر أم لا. لذلك أصبحت عناصر مثل العنوان، والفقرة الافتتاحية، وتسلسل الأفكار، والوضوح اللغوي، وتوزيع الكلمات المفتاحية طبيعيًا، وربط الفقرات بسرد سلس… هي التي تحدد مصير المقال.
ومن زاوية ووردبريس تحديدًا، المقال المكتوب يمتلك ميزة لا يمكن للفيديو منافستها بسهولة: القدرة على تنظيم المحتوى لمحركات البحث عبر بنية واضحة، وعناوين فرعية تعكس نية الباحث، وفقرة تمهيدية تُعرّف السؤال بسرعة، ثم محتوى يُجيب بتفصيل. الفيديو قد ينتشر، لكن المقال هو الذي “يُكتشف” عندما يكتب شخص سؤالًا في البحث.
هل الأفضل أن نختار واحدًا ونترك الآخر؟
الأكثر نجاحًا اليوم هو الدمج الذكي، لا الاستبدال. الفكرة العملية: اجعل المحتوى البصري هو الباب الذي يدخل منه الجمهور، واجعل المحتوى المكتوب هو البيت الذي يجلس فيه، ويفهم، ويقتنع، ويعود لاحقًا. كثير من المؤسسات الآن تتعامل مع الفيديو كـ”مقدمة” أو “ملخص” بينما المقال هو “النسخة المرجعية” التي تحمل التفاصيل والتوثيق.
حتى على مستوى الثقة، الأرقام تقول إن الجمهور يربط الجودة بالمصداقية: في إحصاءات 2025 نفسها، 91% من المستهلكين قالوا إن جودة الفيديو تؤثر على ثقتهم في العلامة التجارية. هذا يوضح أن الفيديو ليس حلًا سحريًا؛ إن لم يكن محترفًا قد يضر أكثر مما ينفع. وهنا يعود دور النص كمساحة أكثر أمانًا للتوضيح والتفصيل دون تكاليف إنتاج عالية.
الخلاصة: من فاز بالهيمنة؟
المحتوى البصري فاز بالانتباه السريع وبالوقت الذي يقضيه الناس داخل المنصات، خصوصًا على شبكات التواصل. لكن المحتوى المكتوب لم يُهزم، بل أعاد تموضعه: صار محتوى “النية” لا “الصدفة”، محتوى “البحث” لا “التمرير”، محتوى “المعرفة المتراكمة” لا “اللقطة السريعة”.
ولذلك، إذا كان هدفك انتشارًا سريعًا فالفيديو سلاح قوي، وإذا كان هدفك بناء حضور مستدام ونتائج بحث وتحويلات ومرجعية وثقة، فالنص المكتوب ما زال حجر الأساس. والأذكى هو أن تجعل كل نوع يخدم الآخر بدل أن يتصارعا.
تم الاستعانة بالارقام الموثقة في هذه المصادر: 1 – 2 – 3
لا يسمح بنقل هذا المحتوى من سوالف دون الاشارة برابط مباشر





