كان الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام يقول :
( نبه بالتفكر قلبك، و جاف عن الليل جنبك، و اتق الله ربك)
بدون الخوض في المباحث الفلسفية و العرفانية المعقدة ..
أقول:
قد أولى الإسلام بمشرعه الكريم جل جلاله ، اهتماما منقطع النظير في قضية التفكر، و يعود هذا الإهتمام إلى كون التفكر هو مفتاح الوصول إلى الحق عز و جل. فنلاحظ كثرة الموارد التي يذكر فيها التفكر في القرآن الكريم (أفلا تتفكرون) ، و معنى ذلك أنه بدون هذه العملية أو التفكر لا يكون هناك إيمان أصلا، إذ أن الدين قائم على أساس عقلي قبل أن يكون نقلي، و ما النقل إلا صورة ملموسة من التفكر العقلي. و الأحاديث في فضل التفكر كثيرة ،و نذكر منها ( تفكر ساعة خير من عبادة سنة) .
و قد ورد في سياق إحدى خطب أمير المؤمنين سلام الله عليه : ( ... أول الدين معرفته- أي الله تعالى- و كمال معرفته التصديق به... ) فكيف تأتي هذه المعرفة؟
كما قلنا آنفا أن التفكر هو مفتاح الوصول إلى الله تعالى، و بذلك إذا كان لنا في التفكر جولة ، سيكون ذلك أول طريق السالكين للمعرفة الحقة. و قد يكون هذا هو السبب الأساسي لوجود العقل. فالتفكر في خلق الله يعمق الإيمان في قدرته و حكمته و علمه، و بذلك يزيد الإخلاص له في العبادة، و تتبخر كل أوهام الشرك من عقولنا و قلوبنا.
و يجب أن نضع بعين الإعتبار الحدود التي يفترض أن نقف عندها في قضية التفكر. فالخوض في التفكر الذي يفوق قدراتنا الإدراكية، هذا تفكر غير مشروع ، لأن نتيجته لا تتلائم مع الذات المقدسة، بطبيعة وسائلنا الإدراكية الناقصة. فيكون بذلك باب الشك قد فتح لكل من يخوض في هذا النوع من التفكر و قد ورد في الحديث : ( تكلموا في كل شيء و لا تتكلموا في ذات الله) و عن أبي جعفر الباقر عليهما السلام أنه قال : ( إياكم و التفكر في الله ، و لكن إن أردتم أن تنظروا إلى عظمته، فانظروا إلى عظيم خلقه).
و إن مجالات التفكر المشروعة كثيرة لا يحصيها إلا من أوجدها، فالسماوات بما تحوي من كواكب و نجوم ، و شموس، و ما لا نعلم، هي ميدان خصب لإعمال الفكر. و أمام أعيننا كل يوم مخلوقات الله في أرضه، إذ يعجز العقل عن وصف هذا الإبداع اللامتناهي، و يقول عز و جل في كتابه : (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)، و قال أيضا في وصف عمل النحلة : (ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا، يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) . و نرى من ذلك أن ميادين إعمال الفكر في تعميق الإيمان بكمال الله عز و جل ، و قدرته المطلقة، كثيرة و متعددة، و سلهة المنال في كل مكان.
الحكمة المستخلصة:
و ما اريد الوصول إليه من هذه الحلقة ، هو استغلال هذه الملكة العظيمة و هي العقل فيما يرضي الله ، و ما يرسخ الإيمان به. فلا ضير أن نخصص عشر دقائق من يومنا صباحا أو مساء ، قبل الصلاة أو بعد قراءة القرآن ، و كلنا حر في اختياره، و ذلك للتفكر في عظيم خلق الله كما قال الإمام الباقر عليه السلام. و لكن اعلموا أيها الأعزاء ما لهذه الدقائق القليلة من فضل و أثر في إيمان المرأ، فلا تحطوا من قدرها.
و يروى أن رجلا تقيا كان يمشي مع جماعة من أصحابه، و بينما هم سائرون، جلس الرجل و هو يبكي بكاء، فسأله أصحابه عن خطبه فقال: تفكرت في ذهاب عمري و قلة عملي و اقتراب أجلي.
و هذا نموذج من النماذج التي أثمر التفكر فيها، ثمارا يانعة، و هي حياة القلب الذي نبهه التفكر، كما عبر أمير المؤمنين عليه السلام في حديثه.
و في ختام هذه الحلقة المتواضعة، أرجوا أن أكون قد أديت جزء من الواجب، و آمل أن تعم الفائدة و المنفعة...
و الحمد لله رب العالمين، و صلى الله على محمد و آله الطاهرين ...
و أهدي ثواب الفاتحة إلى روح سماحة السيد الخميني قدس سره ، إذ اقتبست الحديث الرئيسي و بعض الأحاديث و الأفكار من كتابه المبارك الأربعون حديثا ، فمن يريد الاستزادة يمكنه أن يرجع إلى الحديث الثاني عشر من الكتاب، فذلك أقل ما نستطيع أن نهديه، أمام ما ضحى و أهدى في سبيل الله و الإسلام من فكره و جهده و صحته، فجزاه الله خيرا و حشره مع أجداده الطاهرين ...
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
المفتقر إلى الله
أخوكم المذنب
نسألكم الدعاء