مفاهيم ينبغي أن تصحح في سياق العلاقة مع الآخر![]()
أولاً: إن الكثير من المصطلحات التي تتعلق بالعلاقات الدولية جانبت الوسطية في الفهم وجنحت إلى الإفراط أو التفريط في ذلك:
1 ـ الجهاد: فالجهاد عند كثير من الناس يرادف القتال وهو ليس كذلك·· بل يختلفان لغة وشرعاً: فالجهاد مشتق من بذل الجُهد وهو الوسع أو تحمل الجَهد وهو المشقة، بينما القتال مشتق من القتل·
كل مسلم يجب أن يكون مجاهداً وليس بالضرورة مقاتلاً، إذ إن مجاهدة النفس والشيطان ومجاهدة المنكرات ومجاهدة المشركين بالقلم واللسان والمال والسنان وجهاد البناء والتنمية لا يتصور ألا يكون للمسلم فيها نصيب، بخلاف القتال الذي لا يتأتى إلا عندما تتهيأ أسبابه· الأسباب التي تدعو المسلمين للقتال تنحصر فيما يلي:
1 ـ قتال من يقاتل المسلمين: لقوله تعالى في الآية 190 من سورة البقرة: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)، وقوله تعالى في الآية 91 من سورة النساء: (فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً)
2 ـ القتال لمنع الفتنة في الدين: لقوله تعالى في الآية 93 من سورة الأنفال: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)، والفتنة هي مصادرة حرية الناس واضطهادهم لإجل عقيدتهم، وإرغامهم على تغيير دينهم، كما حدث لأصحاب الأخدود· والقرآن يعتبر هذه الفتنة أكبر من القتل، وأشد من القتل· فالإسلام يشرِّع القتال ليهيئ مناخ الحرية للناس ليؤمن من آمن عن حرية واختيار ويكفر من كفر عن حرية واختيار·
ولعل من الأسباب التي أدت إلى اللبس في مفهوم القتال ما يروَّج له بعضهم أن آية السيف نسخت كل الآيات السابقة، وجعلت السيف هو الفيصل بين المسلمين ووغيرهم، ويجاب على هذا بـ:
إن آية السيف لم يتفق عليها، فمن الناس من قال هي آية (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) التوبة:63، وهذه ليس فيها نسخ بل فيها دعوة للمعاملة بالمثل·
وقال آخرون هي آية: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم) التوبة:5، وهذه الآية نزلت في مشركي العرب الذين نكثوا العهود ولا دليل فيها على قتال من وفَّى بعهده، فقبل هذه الآية جاء قوله: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) التوبة:4، وبعدها جاء قوله: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) التوبة:6، وقوله: (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) التوبة:7· ومنهم من قال آية السيف: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) التوبة:92، فهؤلاء وقفوا ضد الدعوة وصدوا الدعاة وتآمروا على المسلمين فحق قتالهم، وليس فيها دليل على قتال من لم يقاتل المسلمين أو يصد عن سبيل الله من الكفار·
كذلك أشكل على بعضهم >حديث بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده<، والحديث ـ كما يرى العلماء ـ لا يصح سنداً ومتناً، بل يخالف صريح القرآن الذي لم يذكر في آية واحدة أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بالسيف، بل أكد في آيات كثيرة أنه بعث بالهدى ودين الحق وبالبينات والشفاعة والرحمة للعالمين وللمؤمنين: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء:107، (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) النحل:89، (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة:28، ونحو ذلك كثير في القرآن· فالإسلام كما تقدم لا يشهر السيف إلا في وجه من صد عن سبيله وقاومه بالقوة، كما قال تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) البقرة:190، ولو بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بالسيف لما مكث الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاماً في مكة يلقى هو وأصحابه أصناف الأذى ويستأذنه بعض أصحابه في أن يدفعوا عن أنفسهم بالسلاح فلا يأذن لهم·
2 ـ الحرب: إن مفهوم الحرب في زماننا هذا أخذ أبعاداً أكبر من نشوب قتال بين دولة وأخرى، أو بين مجموعة وأخرى، فظهرت له مدلولات أخرى تمتد لتشمل الحرب الاقتصادية: التي من أسلحتها المقاطعة الاقتصادية وتجميد الأرصدة ونحوه·
الحرب الإعلامية: التي من أسلحتها الإنترنت والفضائيات والصحافة ونحوه
3 ـ الظهور والفتح: إن الظهور والفتح لا يعنيان خوض المعارك وإعمال السيف في العدو فقط، كما قد يتبادر للأذهان، بل يمكن للمسلمين أن يفتحوا آفاقاً وأقطاراً، فتحاً سلمياً، لا تراق فيه قطرة دم، فلا يشهرون سيفاً، ولا يطلقون طلقة مدفع، ولا يعلنون حرباً· إنه (الفتح السلمي) الذي أصّله الِإسلام، في (صلح الحديبية) المعروف، الذي عقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش، لإقامة هدنة بين الطرفين، يكف كل منهما يده عن الآخر، فسمّى القرآن ذلك (فتحاً مبيناً) ونزلت في شأنه (سورة الفتح)·· وسأل بعض الصحابة الرسول الكريم: أو فتح هو يا رسول الله؟ قال: >إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح< (رواه أحمد) إنه الفتح الحضاري الذي يدخل به الناس في دين الله أفواجاً·
4 ـ الموالاة والمحادة: إن القرآن الكريم يزخر بنصوص تنهى عن موالاة غير المسلمين، وتقرر أن الولاء عندما يقع النزاع إنما يكون لله ولرسوله، غير أن هذا الأصل محاط بضوابط تحول دون تحوله إلى عداوة دينية أو بغضاء محتدمة أو فتنة طائفية مثل:
ـ النهي ليس عن اتخاذ المخالفين في الدين أولياء بوصفهم شركاء وطن، أو جيران دار، أو زملاء حياة، وإنما هو عن توليهم بوصفهم جماعة معادية للمسلمين تحاد الله ورسوله، لذلك تكررت في القرآن عبارة (من دون المؤمنين) للدلالة على أن المنهي عنه هو الموالاة التي يترتب عليها انحياز المؤمن إلى معسكر أعداء دينه وعقيدته·
ـ المودة المنهي عنها هي مودة المحادين لله ورسوله الذين (يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم)الممتحنة: 1، لا مجرد المخالفين ولو كانوا سلماً للمسلمين·
ـ غير المسلم الذي لا يحارب الإسلام قد تكون مودته واجبة كما في شأن الزوجة الكتابية وأهلها الذين هم أخوال الأبناء المسلمين·· فمودتهم قربة وقطيعتهم ذنب·
ـ الإسلام يعلي من شأن الرابطة الدينية ويجعلها أعلى من كل رابطة سواها، ولكن ذلك لا يعني أن يرفع المسلم راية العداوة في وجه كل غير مسلم لمجرد المخالفة في الدين أو المغايرة في العقيدة·
http://alwaei.com/topics/current/art...=729&issue=476